الذاكرة التشغيلية وعملية

التعلم:

حقائق وأسرار

أ. رحاب أبوزيد أدب إنجليزي- جامعة الملك سعود- السعودية

تساءل العالم لسنوات عديدة عن معجزة الدماغ ووظائفه المختلفة، ولعل أهم ما لفت انتباه العلماء على مر العصور قدرة هذا الأخير على التخزين والاسترجاع على المدى القصير والبعيد للمعلومات، وذلك لتشكيل تمثيل عصبي مصغر لعالم الإنسان الذي يحيط به وتجاربه خلاله، والذي يخزن بالذاكرة. لكن، في حين يستقبل دماغ الإنسان يوميًا كمًا هائلاً من الرسائل والمنبهات الخارجية، يحتاج هذا الأخير لمعالجة ما يرده من معلومات وتخزينها بشكل مؤقت قصد استرجاعها اللحظي في عملية التعلم، الأمر الذي يتطلب تدخل نوع معين من الذاكرة. فما هي حقيقة عمل الذاكرة التشغيلية؟ وما علاقتها بتسهيل عملية التعلم؟

تعريف الذاكرة

قد يحمل لفظ “الذاكرة” من الدلالات والتعريفات ما يزيد تركيبتها تعقيدًا ويطرح حولها الكثير من التساؤلات، فقبل خمسينات القرن الماضي اعتُبرت الذاكرة “وِحدة” واحدة لا تتجزأ، إلا أن الدراسات النفسية العصبية للعالم الكندي دونالد هيب خلال تسعينات القرن الماضي 1946 التخزين والمعالجة توافقًا مع النتائج التصويرية والسريرية للمرضى فاقدي الذاكرة بشكل جزئي، ليخرج بعدها بمفهوم “تجزئة الذاكرة” التي تقسمها إلى أنظمة متعددة وإن كانت تبدو مترابطة مُوحدة العمل، إلا أنها مستقلة فيما بينها؛ نذكر منها الذاكرة “قصيرة المدى” و”طويلة المدى”، التي بدورها تضم أنظمة أخرى مصغرة كالذاكرة المرحلية والذاكرة المكانية، أما ما سنتحدث عنه بالتفصيل في هذا المقال، فيتمثل في نوع من الذاكرة المتجددة التي تُظهر الدراسات العصبية نظريات جديدة تؤكد أهميتها في عملية التخزين والمعالجة المؤقتة للمعلومات والمتمثلة في “الذاكرة التشغيلية”.

الذاكرة والتعلم

يُعرَف التعلم على كونه عملية إثراء مخزون الإنسان من معلومات وذكريات بمعلومات أخرى جديدة يستمدها من تواصله الدائم مع المحيط الخارجي والتي تُختزن في ذاكرته وتنعكس على سلوكياته ممثلةً أرشيفه الشخصي قصد إعادة الاستعمال في عملية التفكير أو التنفيذ. يعتمد الدماغ خلال عملية التعلم على نظامين: • نظام تخزين يتثمل في الذاكرة بأنواعها التي تحوي وصف الأشياء (مميزاتها الشكلية وخصائصها) والتي تعد مهمة للتفكير والتنفيذ. • العمليات العقلية التي تسمح باستقبال ومعالجة المعلومات التي يستقبلها الإنسان خلال تعاملاته مع ما يحيط به وتخزينها في الأنظمة السابقة التي تسمى “تقنيات التعلم”. تتعلق عملية التعلم “بإعدادات” وقواعد عقلية تختلف من شخصٍ لآخر، وهي التي تحدد تفاوت المستوى في المدارس والقدرات الحياتية اليومية، والمتمثلة أساسًا في:

حقائق حول الذاكرة التشغيلية

يتعامل الإنسان مع مختلف المنبهات التي ترده من المحيط الخارجي بشكل يومي، لكنه في طريقه نحو التعلم، يتلقى العديد من المعلومات البصرية والسمعية التي تتميز بالكثرة والتعقيد، الأمر الذي يتطلب قدرات ذهنية أكثر تطورًا ومرونة، وقدرة على التخزين والمعالجة والاسترجاع السريع للمعلومة، ولتحسين هذه القدرات، نحتاج تعمقًا أكثر في أنظمة الذاكرة وكيفية تدخلها في تسهيل عملية التعلم. لفترة من الزمن، فُصلت الذاكرة التشغيلية عن النوعين الآخرين من الذاكرة، وحُصر عملها فقط في التخزين اللحظي الذي لا يتجاوز 30 ثانية للمعلومات، كأن تقوم بتخزين الإرشادات التي يُمليها عليك صديقك وأنت تسأله عن الطريق المؤدي لمطعم معين، أو تذكرك للأعداد المطلوب منك جمعها أو طرحها في عملية حسابية، إلا أن دراسة أخرى اعتبرت هذا النوع من الذاكرة مجرد ظاهرة عصبية عابرة بدلًا من مقر حقيقي للتخزين، فشُبه عملها بالدائرة الكهربائية الموصولة بها مصابيح مختلفة، حيث كلما سجلت معلومة جديدة في ذاكرتك المؤقتة هذه، تعمل مجموعة محددة من العصبونات التي يظهر نشاطها باستخدام جهاز الرنين المغناطيسي، وعندما تسترجع نفس المعلومة بعد مدة معينة، تعمل نفس هذه العصبونات المُجندة من قبل، الأمر الذي يدعم هذه النظرية لكنه لا يؤكدها.

أما في دراسة جديدة نشرتها دورية (Neuron) في السابع من أبريل الفارط، وردت نظرية أخرى فريدة من نوعها تُعتبر إضافة نوعية لما عُرف حول عمل الذاكرة التشغيلية، الذي يدعم علاقتها في تسهيل عملية التعلم والتي سنفصل فيها في هذا الجزء من المقال.

تجربة

جمع كل من “يونا كواك” و”كلايتون كورتيس”، طالبيّ دكتوراه في علم النفس العصبي بجامعة نيويورك، نتائج التصوير المغناطيسي الوظيفي لثمانية من المتطوعين خلال قيامهم بنشاط ذهني تتدخل فيه الذاكرة التشغيلية بشكل أساسي. تعمل هذه التقنية على قياس نشاط الخلايا العصبية انطلاقًا من تغيرات تدفق الدم إلى الدماغ، حيث كلما زاد نشاط الخلايا زادت حاجتها للأكسجين والطاقة وبالتالي زيادة حجم الدم المتدفق لتلك المنطقة.

في تجربتهم الأولى، قام العالمان بعرض دائرة بها خطوط مائلة على المتطوعين لمدة 12 ثانية على الشاشة، وبعد انتهاء هذه الثواني المعدودة، تختفي الدائرة ليُطلبَ من المشاركين تذكر زاوية ميل الخطوط المعروضة سابقًا. أما في التجربة الثانية، وبدلًا من الدائرة، عُرضت سحابة نقطية ذات حركة عشوائية على الشاشة أيضًا ولنفس المدة، ليُسأل المشاركون عن الزاوية التي كانت تتحرك بها سحابة النقط هذه. ولمعالجة المُتحصل عليه، قام الباحثان بنمذجة النتائج على الكمبيوتر للتحصل على خريطة طبوغرافية تظهر من خلالها القيم الحدية العليا والدونية لنشاط الخلايا العصبية أثناء الاختبارين. أظهرت النتائج أن نشاط الخلايا العصبية المسؤولة عن تشفير المنبهات البصرية يتزايد عندما تتواجد هذه المنبهات في مجال بصري محدد من الحقل البصري للمشاركين، ولتفسير نتائج هذه الدراسة، احتاج الباحثان للتعمق في البحث لفهم أكثر لهذه الظاهرة.

نتائج

تعتبر كل من الخطوط المائلة بالدائرة والسحابة النقطية منبهات بصرية معقدة لا يقوى الدماغ على تخزينها كلها كتفاصيل ثم تذكرها كلها في مدة وجيزة للإجابة عن سؤال التجربة، الأمر الذي يدفعه لتجنيد “ذاكرته التشغيلية” وتزويدها بمعدات تعزز من قدرتها على “التشفير”، حيث تعمل خلايا الذاكرة على تشفير أهم ما بالمنبه من معلومات وما يستحق التذكر ثم إعادة تمثيله بشكل بسيط لتسهيل عملية الاسترجاع. خلال التجربتين السابقتين، قامت خلايا متخصصة بمناطق محددة من الدماغ بتشفير الخطوط المائلة والنقاط على شكل خط بسيط مائل، زاوية ميله تعادل زاوية ميل كل من الصورتين. يظهر هذا الخط المائل في مجال بصري محدد بحيث إذا استقبلت منه الخلايا العصبية المنبه البصري زاد نشاطها وتم تسجيله. تتواجد هذه الخلايا بمناطق محددة من الدماغ تتمثل أساسًا في القشرة البصرية المسؤولة عن معالجة المعلومات البصرية، وكذا القشرة الجدارية التي تلعب دورًا كبيرًا في الذاكرة.

اعتمادًا على نتائج هذه الدراسة، تُظهر الذاكرة التشغيلية مرونة في التعامل مع الكم الهائل والمعقد من المعلومات التي تتطلب المعالجة السريعة قصد التخزين والاسترجاع المؤقت، وذلك لقدراتها على التشفير والترميز لإظهار ما هو معقد بالواقع بشكل أكثر بساطة منمذجًا في الدماغ، الأمر الذي إذا صاحبه التدريب المستمر وتطوير المهارات الأخرى من انتباه وتركيز، حتمًا سيجعل من عملية التعلُم أكثر سهولةً ومتعة، ويحفز الدماغ على تفصيل ما يبدو معقدًا وصعب الحفظ والتلقن في المستقبل.

Share This