الغاليوم
معدن سائل يغير الإلكترونيات المرنة
كرت كلينر Noble Magazine – March 2022 ترجمة أ. ديمة أبوظهر
في كل مرة تجلس وجهازك الخليوي في جيبك الخلفي ستتذكر حقيقة جوهرية: جسم الإنسان ليّن ومرن، على عكس الأجهزة الإلكترونية. ولكن قريبًا ستكون هناك أجهزة تتمدد وتنثني، وحتى تصلح نفسها بنفسها عندما تتلف. يسعى علماء المواد إلى ابتكار جيل جديد من الأجهزة المرنة لواجهات استخدام الواقع الافتراضي، وأجهزة المراقبة الطبية، وأجهزة استشعار الحركة وغيرها، وذلك باستغلال الخصائص الاستثنائية في معدن سائل يسمى الغاليوم. يقول مايكل ديكي (Michael Dickey) مهندس الكيمياء في جامعة ولاية نورث كارولينا إن الهدف هو الحفاظ على وظيفية الأجهزة الإلكترونية، وجعلها أكثر مرونة. فيقول: «أقصد أن الجسم والأنظمة الطبيعية اكتشفت طريقة فعل ذلك، لذا حتمًا نحن نستطيع فعل ذلك أيضًا».
قد تُصنع الأجهزة الإلكترونية القابلة للطي أيضًا من معادن تقليدية. ولكن المعدن الصلب يمكن أن يكلَّ وينكسر، وكلما أضيف إلى مادة مرنة، قلّت مرونتها. أما المعادن السائلة لا توجد لديها هذه المشكلة، كما يقول ديكي؛ إذ يمكن ثنيها ومطّها وليّها دون إلحاق ضرر أو ربما القليل منه. ويتبين أن المرونة إحدى خصائص الغاليوم المفيدة. وبما أنه معدن، فإنه ينقل الحرارة والكهرباء بسهولة. وعلى عكس الزئبق، المعدن السائل الأكثر شهرة، فإن لديه مستوى سمّية أقل، ومستوى ضغط بخار أقل، لذلك فهو لا يتبخر بسهولة. كما ينساب الغاليوم بسهولة كالماء تقريبًا. ولكنه سرعان ما يشكّل طبقة أكسيد خارجية صلبة في الهواء، مما يسهل تشكيله إلى أشكال شبه صلبة. كما يمكن تغيير توتر سطحه، الذي يبلغ 10 أضعاف توتر سطح الماء بغمر المعدن السائل بماء مَلِح وتطبيق جهد عليه.
«أنا منحاز، ولكن لكل خبر مستقر. وأعتقد أن هذه هي المادة الأكثر إثارة للاهتمام من بين العناصر في الجدول الدوري؛ لأنها تتمتع بعديد من الخصائص الفريدة.» كما يقول ديكي، المؤلف المشارك لنبذة عن الغاليوم في المجلة السنوية لأبحاث المواد عام 2021م. كان الاهتمام بالغاليوم في الماضي بسبب ربطه المجحف بالزئبق السام من جهة، ومن جهة أخرى بسبب ميله إلى تشكيل طبقة من الأكسيد التي كانت تُعدُّ نقطة سلبية. ولكن مع الاهتمام المتزايد بالأجهزة المرنة، وخصوصًا الأجهزة القابلة للارتداء، بدأ عدد من الباحثين بإيلاء اهتمام جديد له. لصنع دارات قابلة للثني من الغاليوم، يشكّله العلماء بصورة أسلاك رفيعة مزروعة بين صفائح من المطاط أو البلاستيك. يمكن أن تربط هذه الأسلاك الأجهزة الإلكترونية الصغيرة مثل رقائق الكمبيوتر والمكثفات والهوائيات. يقول كارمل مجيدي (Carmel Majidi)، المهندس الميكانيكي في جامعة كارنجي ميلن، قد تثمر هذه العملية عن جهاز يمكن لفُّه حول الذراع واستخدامه لتتبع حركة الرياضي أو سرعته أو إشاراته الحيوية، على سبيل المثال.
ويمكن أن تتحمل هذه الأسلاك والدارات من المعدن السائل ليًّا وثنيًا بليغين. وعلى سبيل البرهان، صنع ديكي أسلاك سماعة أذن يمكن أن تمتطّ حتى تصل إلى ثمانية أضعاف طولها الأصلي دون أن تنقصم. كما تستطيع دارات أخرى أن تشفي نفسها عندما تتصدع؛ فعند وضع الأطراف مقابل بعضها، ينساب المعدن السائل إليها ويصلحها. كما يمكن طباعة دارات الغاليوم وتطبيقها مباشرة على الجلد، كوشم مؤقت. يعمل «الحبر» قطبًا كهربائيًا تقليديًا، من النوع الذي يُستخدم في مراقبة نشاط القلب والدماغ، كما يقول مجيدي، الذي صنع مثل هذه الدارة بطباعة هذا المعدن على مادة مرنة. والوشوم أكثر مرونة وديمومة من الأقطاب الكهربائية الموجودة، مما يجعلها واعدة للاستخدام طويل الأجل. فضلًا عما سبق، يمكن أن تفتح خاصية تغير شكل المعدن السائل آفاقًا محتملة للتطبيق. عندما يُضغط على المعدن، ويُمطُّ ويُلوى يتغير شكله، ويغير التغيير في هندسته من مقاومته الكهربائية؛ لذلك فإن تمرير تيار صغير عبر شبكة من أسلاك الغاليوم يتيح للباحثين قياس كيفية ليِّ المادة ومطها والضغط عليها.
قد يُطبق هذا المبدأ لصنع قفازات استشعار الحركة لتطبيقات الواقع الافتراضي؛ إذا زُرعت شبكة من أسلاك الغاليوم داخل غشاء رقيق ولين داخل القفاز، يمكن أن يلتقط الحاسوب التغيرات في المقاومة عندما يحرك مرتدي القفاز يده. يقول مجيدي: «يمكنك استخدامه لتتبع حركة جسدك، أو حركة القوى التي تتواصل معها، ثم إرسال هذه المعلومات إلى أي عالم افتراضي تعيشه». تثير هذه الخاصية إمكانية صنع آلات تستعمل ما يُسمِّيه ديكي «المنطق المرن». فبدلًا من عمليات الحوسبة، تستعمل الآلات القائمة على المنطق المرن تفاعلات بسيطة تعتمد مباشرة على التغيرات في المقاومة الكهربائية عبر الشبكة. ويمكن تصميمها بطريقة ينشّط فيها ضغط أجزاء مختلفة من الشبكة أو ليِّها أو سحبها استجابات مختلفة. ولإثبات ذلك صنع ديكي جهازًا يمكنه تشغيل المحركات أو الأنوار أو إطفائها بالاعتماد الكامل على مكان الضغط على المادة. يقول ديكي: «لا توجد أشباه موصلات هنا. ولا توجد ترانزستورات أو دماغ، إنها تعتمد على طريقة لمس المادة فحسب».
يمكن استخدام مثل هذا المنطق منخفض المستوى والمعتمد على اللمس لتضمين قابلية الاستجابة في الأجهزة، على غرار تضمين ردود الفعل الانعكاسية في الروبوتات المرنة – مثل ردود الفعل التي لا تتطلب «دماغًا» معقدًا لمعالجة البيانات، إنما يمكن التجاوب مباشرة استجابة لمحفزات محيطة، أو لتغير اللون، أو الخصائص الحرارية، أو إعادة توجيه الكهرباء. والآن أصبحت تلك الطبقة الخارجية من الأكسيد التي يشكلها الغاليوم عندما يتعرض للهواء خاصية يعمل الباحثون للاستفادة منها. تساعد طبقة الأكسيد المعدن على الاحتفاظ بشكله، وتفتح المجال لكل الاحتمالات للنمذجة والتصنيع. يمكن تكديس قطرات صغيرة من الغاليوم فوق بعضها. ويمكن جر قطرة من الغاليوم على السطح، لتترك أثرًا رفيعًا من الأكسيد الذي يمكن استخدامه كــ دارة كهربائية.
فضلًا عن ذلك، يمكن صنع طبقة الأكسيد في الماء لكي تتشكل ثم تختفي وذلك بتطبيق جهد قليل يتسبب في تشكل الكريات ثم انهيارها على الفور. وبالتبديل مرارًا وتكرارًا، يستطيع ديكي أن يجعل الكريات تحرك ثقلًا للأعلى والأسفل. ويقول إن صقل هذا الخاصية قد يجعلها أساسًا لعضلات اصطناعية للروبوتات. يقر ديكي أن التقنية لا تزال في مرحلة الطفولة، ويقترح العمل المنجز حتى الآن إمكانيات استغلالها تجاريًا فحسب. ولكن للغاليوم عدة خصائص مثيرة للاهتمام من المتوقع أن تكون مفيدة في أجهزة الإلكترونيات المرنة والروبوتات، على حدِّ قوله. ويقارن هذا المجال مع بدايات الحوسبة. فرغم أن الحواسيب التجريبية الأولى التي صُنعت من أنابيب خوائية ومفاتيح ميكانيكية تُعدُّ بدائية بحسب معايير اليوم، أسست المبادئ التي أفضت إلى نشوء الإلكترونيات الحديثة. ويقول مجيدي إنه يتوقع أيضًا أن يرى المعدن السائل يُستخدم تجاريًا في المستقبل القريب. ويقول: «في السنوات القليلة القادمة، سترى مزيدًا من هذا التغير نحو تقنيات المعدن السائل في الصناعات، وفي الأسواق. إنها ليست مسألة مأزق فني في هذه المرحلة. بل هي مسألة إيجاد التطبيقات التجارية واستخدامات المعدن السائل التي تُحدث فرقًا».
المصدر: S.Y. Tang Et Al. AR Materials Research 2021
هناك عدة تطبيقات محتملة للغاليوم في علم المواد:
1) القدرة التفاعلية على سطحه تجعله مفيدًا في إجراء التفاعلات الكيميائية.
2) استخدام حالته السائلة وقدرته على التعافي الذاتي لتوليد الطاقة أو تخزينها.
3) إعادة تكوينه في عدة أشكال للدارات والضوئيات وغيرها.
4) قد تجد حالته السائلة استخدامات صوتية وسائلة.
5) جيدٌ للأجهزة الإلكترونية الصالحة للارتداء والقابلة للطي.
6) يُستخدم لابتكار أجهزة “المنطق اللمسي” التي تستجيب لمحفزات محيطة مثل اللمس.