من المنشآت الضخمة إلى

الأجسام النانوية

اللحام وأهميته الاقتصادية والاستراتيجية في الصناعات المتقدمة

د. عبدالعزيز الهزاع علم وهندسة المواد – معهد الملك عبدالله لتقنية النانو

تتسابق الدول الصناعية الكبرى في تصنيع المواد المتقدمة بجميع أطيافها وتطويرها من مواد معدنية وبلاستيكية وسيراميك، وتهتم بتطوير المواد من ناحية إنتاج مواد ذات خصائص نوعية لاستخدامها في تطبيقات محددة ومهمة لصناعات تلك الدول. ومن المهم الإشارة إلى أنَّ المنتج النهائي لأيِّ تقنية؛ كالطائرة، أو السيارة، أو السفينة، أو مراكب الفضاء، والروبوت الآلي، يحوي تشكيلة معقدة من العشرات، وربما المئات من قطع متباينة ومرتبطة بعضها مع بعض ارتباطًا لازمًا لأداء وظائف محددة. وحتى يمكن إكمال الهيكلة للمنتج النهائي يلزم ارتباط تلك القطع بعضها مع بعض، إذ لايمكن، كما نعلم،إنتاج طائرة مثلًا، بعملية واحدة ومن داخل قالب واحد، الذي قد يكون حلمًا بعيد المدى لخبراء الطباعة الثلاثية. 

إذن لا مناص من دخول عمليات اللحام في خط إنتاج أيِّ منتجٍ صناعيٍّ في كلِّ مجالٍ من مجالات الحياة المهمة، كالمجالات الطبية، والنقل، والإنشاء وغيرها، وبغض النظر عن حجم المنتج، فمن القطع الإلكترونية الدقيقة إلى السفن الضخمة يعدُّ اللحام أحد أهم العمليات والمعالجات التكوينية لاستخراج المنتج النهائي، وكلما زادت جودة اللحام زادت كفاءة المنتج النهائي. 

برغم أنَّ مصطلح (لحام) يوحي بأنه عملية سهلة إلا أنَّ هذا الاعتقاد مجانب للصواب؛ فاللحام معالجة في صعبة جدًّا، وتتطلب تحضيرًا بدنيًّا وفنيًّا عاليين للممارس، وتهيئة خاصة للقطع المراد تلحيمها، وللمواد المستخدمة في عمليات اللحام، وكذلك اشتراطات معينة للبيئة التي تتم فيها هذه العملية. 

وتماشيًا مع الطيف الهائل من المنتجات والأجهزة التي تتطلب عمليات لحام، هناك كثير من طرائق اللحام المختلفة، التي تحتاج في كل طريقة منها إلى دراسات مستفيضة، وتحتاج إلى خبراء مختصين بطريقة دون أخرى، إذ إنَّ طرائق اللحام التي تناسب القطع الإلكترونية الدقيقة ليس بالضرورة أن تناسب لحام أنابيب نقل البترول والمواد الكيميائية على سبيل المثال. وبما أنَّ عمليات اللحام هي عمليات لايتم التركيز عليها من قبل منتجي المواد المتقدمة، ولاينتبه لها المستهلكون، فهي عمليات لاتلقى ذلك الاهتمام، أو يُعتقد أنها عمليات بسيطة، بينما في الواقع لايمكن بأيِّ حالٍ الحصول على أيِّ منتجٍ يعمل بكفاءة عالية بدون المرور على عمليات لحام لقطعه الداخلية، بحيث تكون تلك العمليات ذات إجراءات محددة ومطورة، وتضمن عدم افتكاك الأجزاء المتلاحمة تحت ظروف التشغيل المتوقعة للمنتج النهائي، ويتطلب عمل بروتوكولات متخصصة لتلك العمليات. ومع تطوُّر منتجات المواد المتقدمة وتعقيدها يستلزم ذلك تطويرًا مستمرًّا في عمليات اللحام ورفع كفاءتها.

وتؤكد دراسة في الولايات المتحدة الأمريكية أنه من المتوقع أن ينمو سوق اللحام من 13,6 مليار دولار في 2020 إلى 17.3 مليار دولار بحلول عام 2025، بمعدل نمو سنوي مقداره 4.8٪. ويُعزى نمو سوق مواد اللحام في الآونة الأخيرة إلى تطور صناعة النقل والنمو في الصين والهند، وكذلك الاقتصادات الناشئة في آسيا وأفريقيا، ومع ذلك فإنَّ ارتفاع كلفة العمالة الماهرة قد يقيِّد هذا النمو.

هناك أهمية لجذب الجيل الجديد للعمل في تقنيات اللحام لتغطية العجز المتوقع من خلال التعليم، سواء في التعليم التقني والفني أم في الجامعات، وإبراز أهمية عمليات اللحام بوصفها إحدى العمليات الضرورية للمنتجات والمواد المتقدمة، إذ إنَّ هناك اعتقادًا سائدًا وخاطئًا، وهو أنَّ المتخصص في اللحام يحصل على دخل مالي أقل، ويحظى بمكانة اجتماعية أدنى مقارنةً بنظرائه من العاملين في المجالات الهندسية والفنية الأخرى. ويدحض هذا الاعتقاد وجود نقص وحاجة للمختصين في اللحام في الولايات المتحدة، وفي دول كثيرة في العالم المتقدم كبريطانيا، ويقدّر النقص لمختصي اللحام في عام 2020 في الولايات المتحدة وحدها 2020 بـ (290) ألفًا.

تشمل عمليات اللحام عدة تقنيات تتفاوت فيما بينها بتفاوت المنتج الذي يُراد العمل عليه، وبتفاوت بيئة العمل؛ فهناك اللحام اليدوي باستخدام الغاز الخامل والأقطاب المعدنية، كمعدن التنجستن للحام القطع المعدنية المتماثلة، وهناك لحام القوس الكهربائي، واللحام النقطي، واللحام الخطي، واللحام باستخدام الليزر، واللحام باستخدام حزمة إلكترونات موجهة، واللحام بواسطة الانتشار الذري الحراري، واللحام بواسطة الاحتكاك وغيرها من الأنواع المتقدمة، إذ إنَّ بعضها يحتاج تجهيزات مكلفة، وإجراءات علمية وهندسية محددة، وكفاءات بشرية عالية التدريب والتأهيل، كاللحام بتقنيات النانو. وبالنظر لتقنية النانو، على سبيل المثال، هناك تصاعد متزايد في تطبيقات الأنظمة الكهروميكانيكية الميكرونية والنانوية في مجال صناعة الحساسات، وتوجيه الليزر، وأنظمة الذكاء الاصطناعي، والاستشعار عن بعد. ويلزم لحام الشرائح الدقيقة المتباينة لتلك الأنظمة عمليات لحام فائقة التحكم لتغطي التلاقي السطحي على مستوى النانو، وعدم السماح بتسرُّب أيِّ جسيمات أو ذرات غبار بين السطحين المراد لحامهما، حتى لا يؤدي ذلك إلى إضعاف أداء تلك المنظومات. ومن هنا يتضح أنه مع تطور العلوم والتقنيات يكون هناك حاجة ماسة لتطوير تقنيات لحام مصاحبة. 

تشمل عمليات اللحام جميع الأشكال الهندسية وجميع أنواع المواد، بدءًا من لحام المعادن المتماثلة، كلحام الألمنيوم مع الألمنيوم إلى لحام مواد غير معدنية بمواد معدنية، كالبلاستيك مع الألمنيوم، لذلك يمثل اللحام تحديًا في الصناعة، إذ إنه كلما كان الاختلاف بين المادتين المطلوب ارتباطهما كبيرًا أصبحت عملية اللحام أكثر تعقيدًا؛ أي أنَّ لحام شريحتي نحاس متماثلتين أسهل من لحام شريحة نحاس مع شريحة ألمنيوم، ولكن لحام شريحة نحاس مع شريحة زجاج يعد الأكثر صعوبة. إنَّ لحام المواد المختلفة يحتاج فهمًا عميقًا للتركيب الذري والميكروني للمواد، ومن ثَمَّ اختيار عملية اللحام المناسبة، وتحديد شروطها وإجراءاتها، إذ إنَّ ذلك ينعكس على أثر عملية اللحام من حرارة، وضغط، وبيئة محيطة في كفاءة اللحام، وفي المحافظة على التركيب الميكروني للمواد الأساسية، وضرورة عدم إتلافها المواد بالكامل. 

وهناك عوامل أساسية ينبغي توافرها لنجاح عمليات اللحام حسب الآتي: 

  • توفر المواد أو المعادن.
  • توفر الحرارة اللازمة ومصدرها وقياسها.
  • توفر مواد الحشو الملائمة، كأسلاك اللحام من قصدير، أو ألمنيوم، أو المواد البينية في حالة اللحام باستخدام الانتشار الحراري مثلًا.
  • توفر البيئة المناسبة المحيطة بعملية اللحام لمنع التأكسد، مثل الغاز الخامل، أو التفريغ.

إن النجاح في عملية لحام قطعتين من أي نوع، يتطلب أن يدرس المختص جودة منطقة اللحام، وتتفاوت الدراسات حسب طبيعة اللحام وطبيعة المواد المستخدمة، ومن المهم أن تكون دراسات جودة اللحام متماهية مع الظروف التشغيلية الفعلية للمواد التي تم تلحيم بعضها مع بعض. ويمكن أن تُستخدم أجهزة تحليلية ذرية، مثل جهاز التصوير الإلكتروني، والتحليل الذري، وكذلك جهاز حيود الأشعة السينية لفهم التشكيل الذري والميكروني الذي توفر بعد نجاح عملية اللحام، ومدى تجانسه مع التركيب الذري والميكروني للمواد الأساسية، التي تقع خارج منطقة اللحام، وكلما كان هناك تجانس كانت عملية اللحام ذات جودة أفضل.

ومن المهم عمل دراسات ميكانيكية على منطقة اللحام، وتحديد القوة اللازمة للوصول إلى نقطة الكسر أو التشوُّه التي عندها لايمكن الاستمرار في تشغيل ذلك المنتج. ويجب أن تكون هذه القوة الميكانيكية القصوى أعلى من القوة التي سيتعرض لها المنتج في ظروف التشغيل الفعلية. وهناك أيضًا دراسات يمكن إجراؤها لدراسة الأثر الزمني لمنطقة اللحام، ولجودة المنتج تحت ظروف التشغيل الاعتيادية بعد فترة زمنية معينة. 

وختامًا ينبغي الإشارة إلى أنه عادةً تعدُّ مناطق اللحام في أيِّ منتج هي المناطق الأضعف من الناحية الميكانيكية، ومن ثَمَّ ينشأ من تلك المناطق الكسر أو التشوه الذي يسبب انهيار في المنظومة الكاملة لهذا المنتج، ويمكن أن يكون المنتج طائرة أو سفينة أو مركبة فضائية أو غيرها، وعلى سبيل المثال انهارت وتعطلت نسبة ملحوظة من سفن الحرية التابعة للولايات المتحدة الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، وبعد دراسة الأسباب وجد أنَّ السبب الرئيس يكمن في عيوب وضعف جودة اللحام لأجزاء من الهياكل المكونة للسفن، لذلك من الضروري جدًّا العمل على تطوير الإمكانيات العلمية والفنية والبشرية في هذا المجال لدوره الحيوي في الحياة الصناعية.

Share This