المختبرات الطبية
دور حيوي في تشخيص الأمراض وعلاجها
أ. هدى المدني – علوم مختبرات طبية – مختبر جدة الإقليمي – السعودية
تعتمد عملية تشخيص الأمراض السريرية بشكل كبير على الفحوصات المختبرية المتنوعة. ووفقًا للتقديرات الحالية، 70ا% من القرارات الطبية تُتخذ استنادًا على نتائج الفحوصات الإكلينيكية. تتجاوز فائدة التحاليل الطبية حدود تشخيص الأمراض، إذ تتضمن تحديد نوعية العلاج المناسب وفاعليته، ومراقبة حالة المرضى بعد تناول العلاج.

تقوم المختبرات الإكلينيكية بتنفيذ مجموعة واسعة من الفحوصات الإكلينيكية، حيث يتم إجراء ما يُقارب 14 بليون اختبار سنويًا في المنشآت الصحية، وتتم هذه الاختبارات بدقة عالية وفي وقت قياسي باستخدام أحدث التقنيات، مما يساعد الأطباء على اتخاذ القرارات الطبية الملائمة لكل حالة مرضية. يتراوح هذا العدد الضخم من الاختبارات المختبرية، بين الاختبارات البسيطة والسريعة والاختبارات ذات الدقة والتخصيصية العالية للكشف عن الأمراض. تشمل الاختبارات تحليل سوائل الجسم والخلايا والأنسجة المختلفة، للكشف عن أي اضطراب شكلي أو وظيفي فيها، مما يساعد في تحديد أسباب الأمراض بدقة. تقوم هذه الاختبارات أيضًا بقياس تراكيز المواد المختلفة في الجسم مثل الجلوكوز والهرمونات والمعادن وإنزيمات الجسم. بالإضافة إلى ذلك، تُستخدم للكشف عن البكتيريا والفيروسات، وتتمتع الاختبارات الأكثر اختصاصًا بقدرتها على كشف السرطانات والأمراض الوراثية. يُعزز هذا المقال أهمية التحاليل الطبية وتأثيرها الكبير على الصحة العامة، ويستعرض التطورات المستقبلية المتوقعة في هذا المجال.
من بين المجالات الرئيسة التي تشملها هذه الاختبارات مجال أمراض الدم (Hematology)، الذي يهتم بدراسة الدم ومكوناته، بما في ذلك الأعضاء المنتجة للدم، مثل النخاع الشوكي والغدد اللمفاوية والطحال، بالإضافة إلى الأمراض والاضطرابات المرتبطة بالدم. تقدم اختبارات أمراض الدم معلومات مفصلة للأطباء حول عدد وشكل خلايا الدم الحمراء والبيضاء، وتحديد نسبتها من خلال اختبار عد الدم الكامل (CBC) . كما يتم استخدام هذا الاختبار لتحديد نسبة الهيموجلوبين وسرعة الترسيب الكروية، ويُعد أساسًا لتشخيص فقر الدم والعدوى والأمراض الالتهابية. بالإضافة إلى ذلك، يتم اكتشاف اضطرابات تخثر الدم والنزف من خلال قياس عدد صفائح الدم، واستخدام اختبارات التخثر الأخرى، مثل زمن البروثرومبين ووقت الثرومبوبلاستين الجزئي. توجد أيضًا اختبارات مختصة تسهم في تشخيص بعض أنواع فقر الدم، مثل تقييم إنزيم (G6PD) الذي يساعد في الكشف عن أنيميا الفول. يتم استخدام اختبار التحليل الكهربائي للهيموجلوبين للكشف عن فقر الدم الوراثي، مثل فقر الدم المنجلي وأنيميا البحر الأبيض المتوسط. ويعتبر اختبار النخاع الشوكي أحد الاختبارات المختصة النادرة، التي تستهدف دراسة أنواع الخلايا والسوائل والأنسجة المختلفة في النخاع العظمي، ويقدم صورة متكاملة للخلايا المنتجة من نسيج النخاع الشوكي والأمراض المرتبطة بها مثل سرطان الدم وانتشاره واستجابته للعلاج.
الكيمياء الحيوية السريرية، المعروفة أيضًا بالكيمياء السريرية، تعتبر فرعًا مهمًا في علم الطب الحيوي. تعمل على تحديد نسب المركبات والمواد المختلفة في الدم والبول وغيرها من سوائل الجسم، والتي تُعرف بالمؤشرات الحيوية، بهدف تشخيص الأمراض ومراقبة فعالية العلاج. يتم إجراء هذه التحاليل باستخدام تقنيات دقيقة ومعقدة، مثل القياس الطيفي والكروماتوغرافي والمقايسة المناعية، لقياس تراكيز المركبات والمواد المختلفة في الدم والبول وسوائل الجسم الأخرى. من بين المؤشرات الحيوية المعترف بها والتي يتم قياسها في الكيمياء الحيوية السريرية هو الجلوكوز، الذي يُستخدم لتشخيص مستوى السكر في الدم. كما تُستخدم هذه التقنيات لقياس مستوى الكولسترول، والدهون الثلاثية، وتعد أمرًا ضروريًا لمراقبة الحالة الصحية للقلب والوقاية من الجلطات قبل حدوثها. بالإضافة إلى ذلك، يتم قياس نسب الإنزيمات الوظيفية للأعضاء المختلفة مثل الكبد والكلى، ويسهم ذلك في تشخيص الأمراض المرتبطة بهذه الأعضاء. من ناحية أخرى، تعتبر قياسات مستويات الهرمونات في الدم وتغيراتها أيضًا مؤشرًا على وظيفة الغدد الصماء، وعلى سبيل المثال، يتم قياس (TSH) و(T4) لتقييم وظائف الغدة الدرقية.

على صعيد آخر، تُقاس نسب المعادن المختلفة في الدم، حيث تسهم في تشخيص أمراض الكلى واضطرابات التمثيل الغذائي. ومن بين الاختبارات الخاصة التي يتم إجراؤها في مختبرات الكيمياء الحيوية السريرية للكشف عن بعض أنواع السرطانات هو اختبار مستضد البروستات النوعي (PSA) الذي يشير إلى وجود سرطان البروستات. علم الأحياء الدقيقة السريرية يُعد ركيزة أساسية لتشخيص الأمراض المعدية وتحديد العوامل المُمرضة، سواء كانت بكتيرية أو فيروسية أو فطرية أو طفيلية. يهدف هذا العلم أيضًا إلى التعرف على العلاجات المناسبة لكل نوع من هذه العوامل المُمرضة والعمل على منع انتشار العدوى بين الأفراد والمجتمع. تُعد مشكلة مقاومة الباثوجينات المُمرضة للمضادات الحيوية من أبرز التحديات التي يواجهها الأطباء في علاج المرضى. وتلعب مختبرات الأحياء الدقيقة دورًا رئيسًا في الكشف عن هذه المقاومة والحد من انتشارها، من خلال إجراء اختبارات الحساسية المتعددة التي تُجرى على مسببات العدوى، وذلك لضمان استخدام المضاد الحيوي المناسب والأكثر فعالية لكل باثوجين. تتم هذه العملية عادةً بعد زراعة عينات البول والبراز وسوائل الجسم المختلفة في بيئة مناسبة، لعزل العوامل المُمرضة ومن ثم تُجرى اختبارات الحساسية عليها.
يعتمد تخصص الأمصال والمناعة (Immunology and Serology) على استخدام تفاعلات الأجسام المضادة مع المستضدات. يهتم هذا الفرع بدراسة الأمراض المناعية الذاتية وكشف أمراض الحساسية، وتُستخدم الاختبارات المصلية للكشف عن الأمراض المعدية مباشرة مثل الفيروسات، أو لتقييم استجابة المضيف المناعية للعدوى مثل فيروس الإيدز وفيروس الكبد الوبائي، أو الأمراض المنقولة جنسيًا مثل الزهري. عادة ما يتم إجراء هذه الاختبارات باستخدام مصل الدم، ولكن يمكن أيضًا إجراؤها باستخدام سوائل الجسم الأخرى مثل البول أو اللعاب. إن أهمية التحاليل السريرية لا تقتصر فقط على هذه المجالات، بل تتجاوزها لتشمل مجالات أكثر دقة وتعقيدًا. على سبيل المثال، في مجال علم الجينات، تُستخدم الوراثة الجزيئية (Molecular Genetics) للكشف عن الأمراض الوراثية ودراسة التغيرات التي تحدث في الجينات. كما تعمل الوراثة الخلوية (Cytogenetics) على تشخيص الأمراض للأجنّة قبل الولادة أو بعدها من خلال دراسة التغيرات الجينية والنمط الخلوي.


كما يُتوقع أن تستمر أهمية التحاليل السريرية في النمو في السنوات المقبلة، خاصة مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي واستخدامها في تحليل وتفسير البيانات المخبرية، لتحسين تشخيص الأمراض وتوجيه العلاج. كذلك للعمل على تحسين وقت الاستجابة للنتائج المخبرية، لتمكين الأطباء من التشخيص السريع، واتخاذ القرارات العلاجية في الوقت المناسب، وذلك من خلال استخدام التطبيقات المتنقلة والتقنيات اللاسلكية، لتسهيل جمع العينات المخبرية، وتبادل البيانات بين المختبرات والأطباء بشكل فعّال وسريع.