النانو

وعلم الأعصاب

د. محمد مخانق استشاري مخ وأعصاب – مدينة الملك سعود الطبية – السعودية

تطالعنا المجلات العلمية والدوريات العالمية يوميًا بكل ما هو جديد في نطاق العلوم والاكتشافات الحديثة، ونلاحظ نوعين من التمدد والتوسع العلمي؛ نوع أفقي على شكل تزاحمٍ متنوعٍ بالاكتشافات بكل ألوانها وأطيافها، وعمودي على شكل تعميق وتطوير اختراعٍ أو اكتشاف سابق وجعله فعالًا أكثر أو ربطه بشكل أكبر بالحياة المُعاشة. فبينما تظل بعض الكشوفات العلمية حبيسة الأدراج النظرية؛ تشرق علينا أخرى عند دمجها بالواقع لتنير حياتنا بما هو نافع للإنسان أو لأشكال الحياة المختلفة. دأبت مراكز البحث العلمي -أخص منها بالذكر المرتبطة بالحياة العملية- على ابتكار تشاركات وتوائمات خلّاقة ربطت العلوم النظرية بالتطبيقات العملية، وقد كان لها أثر جليل وبالغ في حل مشاكل الإنسان وتسهيل الحياة عليه، إضافة لتخفيف معاناته في كثير من الأمراض. وتعد تقنية النانو مجالًا جديدًا وواعدًا للتطور التقني، وهناك إمكاناتٌ كبيرةٌ في البحث والتطبيقات السريرية للأمراض العصبية.

ما هو علم النانو الحيوي؟

هو هندسة المواد أو النظم النانوية، ويقع حجمها الفعّال في المجال 100 نانومتر أو أقل، ويمكن استخدامها للعمل مع العضيّات داخل الخلوية أو الخلايا بطرق متنوعة ومُستحدثة، ومن الممكن صنع مواد فريدة تؤدي وظائف مهمة على الصعيد الحيوي. وما زلنا نكتشف المزيد حول كيفية تفاعل المادة والطاقة في هذا المستوى المتناهي في الصغر. فعلى عكس المواد التقليدية، تمتلك الجسيمات النانوية التي يبلغ قطرها من 1 إلى 100 نانومتر خصائص كهربائية وكيميائية وبصرية وميكانيكية ومغناطيسية استثنائية؛ ونتيجة لذلك يمكن تصنيع أنظمة نانوية ذات قيمة عالية باستخدام هذه الجسيمات النانوية. فبالمقارنة مع التخصصات العلمية الأكثر رسوخًا، يعتبر مجال تقنية النانو الأكثر تطوراً وحداثة! 

نانو الأعصاب

يشير مصطلح “علم الأعصاب النانوي” إلى فرع جديد من البحث العلمي تندمج فيه تقنية النانو بعلم الأعصاب. عندما يتم الجمع بين تقنية النانو وعلم الأعصاب والهندسة الحيوية، يمكن حينها تحويل البحوث الأساسية إلى تقنيات مبتكرة وأدوات للتشخيص والعلاج والمراقبة في الحالات المرضية المرتبطة بالأمراض العصبية. 

خصوصية الجهاز العصبي

يصعب في كثير من الأحيان تشخيص وعلاج أمراض الجهاز العصبي المركزي بسبب الحماية القصوى التي يوفرها ما يُسمى بالحاجز الدموي الدماغي (بنية خلوية مُحكمة تفصل الأوعية الدموية عن نسج الدماغ والنخاع الشوكي)، والذي يمنع المواد والجزيئات الكبيرة من الولوج للجملة العصبية المركزية، وغالبًا ما تكون العلاجات التي يتم اعطاؤها جهازيًا (فمويًا أو بالوريد) غير فعّالة! ونتيجة لذلك تتوسع الدراسات في المجال النانوي للاستفادة من الأبعاد المتناهية في الصغر لجزيئاته، ومن الممكن أن تلعب أدوارًا حاسمة في التشخيص والعلاج. 

يُحسب للمواد النانوية أيضًا إضافة للحجم؛ مجموعة من الخصائص المميزة المساعدة مثل: الاطلاق المُتَحكم به، استهداف مواقع بعينها، نسبة عالية من السطح للحجم، والقدرة على التكيف. هذه الخصائص قد تساعد في تحسين عملية التشخيص والعلاج، والحد من ردود الفعل السلبية غير المرغوب فيها. وعلى وجه الخصوص فإن الهياكل النانوية يتم استخدامها كتقنيات للتأثيرات الوقائية العصبية على مستوى الجينات والبروتينات، وكمنصات للتصوير العصبي، ومركبات لتوصيل الأدوية، وكسقالات للتمايز والتجدد العصبي، وكأدوات لجراحة المخ والأعصاب. 

بعض المواد النانوية المستخدمة في طب الأعصاب:

  1. مُذيّلات البوليمير: تستخدم في توصيل بعض الأدوية والهرمونات إلى الجهاز العصبي. فعلى سبيل المثال تستخدم ركيزة من البوليمير مع المضاد الفطري أمفوتريسين لتسهيل دخوله للجملة العصبية بهدف علاج العدوى العصبية.
  2. الجسيمات النانوية الدهنية: تستخدم في الوقاية العصبية بتعديل أو تثبيط بعض الجينات الضارة.
  3. المستحلبات النانوية: المساعدة بالوقاية العصبية وتوصيل بعض الأدوية العصبية، مثال ركيزة لدواء تيترابنازين المضاد لداء هنتغتون الوراثي.
  4. النقاط الكمومية وأكسيد الحديد: دور في التصوير بالرنين المغناطيسي والتصوير الحديث بالنانو.
  5. جزئيات السيلكيا النانوية: تحفيز نمو الأعصاب والخلايا العصبية.
  6. أنابيب النانو كربون: تستخدم كغطاء مصمم لتعزيز التفاعل الكهربائي العصبي والتحفيز، والاستخدام كسقالات في عملية النمو العصب

بعض التفاصيل عن استخدام الأجسام النانوية

  • كربون-أساس وعلم الأعصاب:

وهو عبارة عن هياكل نانوية قائمة على الكربون، تتكون من كربون عالي النقاء مع ذرات مختلفة، يجب التركيز بشكل خاص على التهجين أو الأنماط الهندسية في هذا السياق. حتى الآن؛ تلعب العناصر الثلاثة الموجودة بشكل طبيعي للكربون (الكربون غير المتبلور والجرافيت والماس) مصحوبة بتوليفات مشتقة من مواد تركيبية (بما في ذلك الأنابيب النانوية الكربونية والجرافين والألماس النانوي والفوليرين) الدور الأساسي في معظم تطبيقات النانو-كربون. وكمثال محدد؛ فإن الأنابيب النانوية الكربونية أثبتت فعاليتها الشديدة في تعزيز نمو الخلايا العصبية. اكتشف هذا التحقيق المبكر بقاء الخلايا العصبية على قيد الحياة في النسيج الدماغي الذي تم فحصه، وكذلك النقل العصبي، مع زيادة كبيرة في الخلايا المتولدة ذاتيًا والتدفقات بعد المشبكية (صورة 2). وكتطبيق عملي آخر بالاشتراك مع جامعة مايو كلينك، فإن أقطاب النانو القائمة على ألياف الكربون تم تطويرها كأداة للمراقبة والتحفيز الكيميائي العصبي، فقد تم إنتاج ألياف نانوية كربونية صغيرة جدًا بحجم 50 نانومتر يمكن استخدامها لقياس مستويات تركيز الكيمياء العصبية.

صورة 2: أنابيب كربون نانونية.

صورة 1: الفرق بين الجسيمات النانونية العضوية وغير العضوية

  • الجسيمات النانوية البوليمرية:

إن هذه المواد النانوية البوليمرية بهندستها التركيبية القابلة للبرمجة (10 إلى 1000 نانومتر)، مع ميزات التوافق الحيوي، وعدم السميّة، فإنها تمثل على وجه الخصوص خيارًا واعدًا وقابلًا للتطوير كنظام ممتاز لتوصيل الأدوية التي تستهدف الجهاز العصبي المركزي (عبر خاصية إطلاقها للعقاقير بشكل خاضع للرقابة).

  • أجهزة الاستشعار الحيوية:

هي أدوات تكشف تراكيز المواد الكيميائية باستخدام تفاعلات كيميائية حيوية فريدة وتعمل من خلال أنظمة المناعة أو الإنزيمات المعزولة أو العضيّات أو الخلايا الكاملة أو الأنسجة، وعادة مايكون عن طريق الإشارات الضوئية أو الحرارية أو الكهربائية.

  • الكشف عن النواقل العصبية:

إن الناقل العصبي هو الجزيء المنظِم الأساسي في الدماغ، والذي يسمح بعمل الخلايا العصبية بالإضافة إلى التحكم بوظائف الأعضاء والسلوك البشري. يأخذ الناقل المعلومات المخزنة في أجزاء مختلفة من الدماغ وينقلها عبر الخلايا العصبية لتنفيذ المهام المطلوبة. تعتبر نواقل: الإبينفرين والنورإيبينيفرين والجلوتامات والأسيتيل كولين والسيروتونين جميعها نواقل عصبية مثيرة أو محرضة. أما الجلايسين والغابا فهي نواقل عصبية مثبطة، بينما يلعب الدوبامين أداورًا مثبطة ومنشطة بحسب الخلايا والمستقبلات. تمتلك المواد النانوية مساحة كبيرة نشطة كهربيًا، مما يسهم في تعزيز نقل الإلكترون بين الجزيئات المستهدفة وسطح قطب المستشعر، الذي يؤدي في النهاية إلى زيادة في الكشف الكهربائي للنواقل العصبية.

  • التصوير العصبي:

يعد التصوير الشعاعي من أكثر التقنيات فعالية لدراسة أمراض الجهاز العصبي المركزي واستقصائه، وبسبب قيود التصوير العصبي الموجودة، فإن الهياكل النانوية المصنّعة مع مجموعة متنوعة من المواد، وبفضل الخصائص البصرية الممتازة لها؛ يمكن التغلب على صعوبات التصوير العصبي التقليدي في الجسم الحي. تم استكشاف العديد من المواد النانوية بميزاتها البصرية والخصائص الكيميائية والفيزيائية في نطاق النانومتر، للتطبيق في تحليل الصور الطبية الحيوية خلال العقد الماضي. ظهرت تقنيات التصوير الطبي المبتكرة كنتيجة اختراقات في تركيب وهندسة تقنيات النانو. هذه المجسات النانوية هي أنظمة نانوية أساسية للتصوير، وقياس للآليات الكيميائية الحيوية في الكائنات الحية في مختلف مراحل التصوير.

مزايا تقنية النانو في علم الأعصاب السريري العلاجي والترميمي

تقنية النانو لديها القدرة على عكس الآليات الممرضة العصبية على المستوى الجزيئي أو الحد منها. وكتطبيق علاجي؛ تم تشكيل سقّالات هندسية نانوية (القناة العصبية) تتضمن مكونات جسيمات نانوية وظيفية بتقليد المصفوفة خارج الخلية لتقديم بيئة مكروية فيزيائية نشطة بيولوجيًا للتجديد العصبي. أما عن كيفية ولوج المكونات النانوية فباستخدام تقنيات الموجات فوق الصوتية المركزة أو الصدمة التناضحية (مانيتول) لفتح الحاجز الدموي الدماغي بشكل مؤقت، والسماح للجسيمات النانوية بدخول الخلايا لتسهيل نقل الأدوية من خلالها المواد النانوية. تؤدي المواد النانوية المصممة وفقًا لمواصفات دقيقة للغاية إلى تنشيط الخلايا المستهدفة وبالتالي تحقيق أهداف عصبية معينة. وكتطبيق ترميمي؛ استُخدِمت ألياف نانوية سميكة تحتوي على ذيل كربون كاره للماء ورؤوس محبة للماء من الببتيدات، وأمكنها إحاطة الخلايا الجذعية العصبية والخلايا السليفة تحت ظروف فيزيولوجية معينة، والقيام بالتجميع الذاتي وإنشاء مادة هلامية تحتوي على الخلايا المذكورة مما أدى لتطور الخلايا الجذعية وتمايزها بهذه الطريقة.

الصعوبات والتحديات على أرض الواقع:

فيما يتعلق بعلم الأعصاب، أحد أكبر التحديات التي تطرحها تقنية النانو هو مدى تعقيدها. يُقر العلماء بأن ذلك له تأثير كبير في قدرتنا على التدخل على المستوى الجزيئي، وكذلك كيفية عمل الجهاز العصبي، وآلية الأعطال في المرض وكيف نفهمها. أكثر الجوانب الجديرة بالملاحظة من مساهمات تكنولوجيا النانو في علم الأعصاب أنه عندما يتعلق الأمر بالتطبيقات في الجسم الحي، فإن استخدام تقنية النانو في الجهاز العصبي مازال صعبًا! إن التعقيد الجوهري للدماغ يعتبر من أكثر الجوانب المميزة، وإن معالجة المعلومات في الجهاز العصبي يحدث بشكل متجذر وبمستويات متعددة الأبعاد من التفاعلات الخلوية؛ فمن الضروري أن يكون الباحث على دراية بتعقيد الجملة العصبية أثناء استخدام تقنيات النانو التي تهدف إلى التأثير عليه.

إن التصنيع يجب أن يكون في منشأت تصمم آلات نانوية ذات درجة عالية من الفعالية والنظافة! ويمكن أن يؤدي أدنى قدر من التلوث في عملية التصنيع إلى خلل في البنية التحتية النانوية، وتكون تداعياته كارثية في الجسم الحي! ماتزال حياة المواد النانوية داخل البيئات البيولوجية والعمر المتوقع للمادة لها داخل الخلية الحية مشكوك فيه. لا توجد -حتى الآن- بيانات طويلة المدى متاحة لإعطاء إجابة آمنة وقاطعة. إن الآثار طويلة المدى لجسم غريب داخل خلية حية غير معروفة أيضًا مشكلة أخرى تنشأ من سُمِّية المواد الداخلة في تقنيات النانو استنادًا إلى تركيبها الكيميائي.

الصعوبات والتحديات على أرض الواقع:

تشكل الأمراض العصبية مُعضلات غريبة وفريدة من نوعها من بين أمراض الإنسان، إن الالتهاب والعدوى والأورام والمناعة الذاتية والتنكس -عندما تصيب الجهاز العصبي- هي إشارات مهمة للوفاة. على الرغم من أن العلم أعطانا عجائب تكنولوجية جديدة مثل الأنابيب النانوية والأسلاك النانوية والروبوتات المصغرة والأغلفة النانوية، فإن التحديات التي تواجه تنفيذها في الأمراض العصبية لا تعد ولا تحصى! تشهد التطورات العلمية والطبية مستجدات ثورية قائمة على تكنولوجيا النانو قد ترى النور في المستقبل القريب، وذلك بالنسبة للأمراض المسببة للإعاقة الشائعة مثل مرض الزهايمر (AD)، ومرض باركنسون (PD)، والتصلب الجانبي الضموري (ALS)، والتصلب المتعدد (MS). إن مستقبل طب الأعصاب النانوي لكل من التصوير البيولوجي والعلاجات مثير للغاية حقًا. وفي نهاية المطاف؛ فإن التحديات والصعوبات هي في حقيقة الأمر المحفز الرئيس للعلماء ومراكز البحث لمزيد من التنقيب والتطوير للوصول للصيغ المثلى وتفادي العيوب، لفتح آفاق تشخيصية وأبواب علاجية في طب الأعصاب قد طال انتظارها.

Share This