تقنية “كريسبر”
طفرة ثورية في الهندسة الوراثية
د. عبدالرحمن الشهري – الكيمياء الحيوية الجزيئة – جامعة الفيصل – السعودية
أحدثت تقنية “كريسبر” للتعديل الجيني تحولات واسعة النطاق في العلم الحديث، حيث تُعَدّ الأضخم من نوعها منذ اكتشاف تقنية تفاعل البوليميراز المتسلسل (Polymerase Chain Reaction) (PCR) عام 2009. عثر بروس كونكلين (Bruce Conklin) ـ أستاذ الوراثة في معهد جلادستون في سان فرانسيسكو بكاليفورنياـ على طريقة جعلته يُغيِّر مسار مختبراته، حيث حاول أن يفسر التغيرات في الحمض النووي (DNA) على الأمراض المختلفة في البشر، ولكن أدواته كانت بطيئة. وعندما قام بتجاربه على خلايا المرضى، كان صعبًا عليه أن يعلم تحديدًا أيّ التسلسلات التي تسبب المرض، وأيّها مجرد خلفية لا معنى له. وكان تحوير الخلايا البشرية جينيًا عملًا مكلفًا ومتعبًا، حيث قال عنه: “كان مجرد تحويل جين واحد موضوعًا يستغرق الطالب فيه مجهود دراسة بحثية كاملة”. في عام 2012، قرأ كونكلين عن تقنية جديدة نُشرت في علم الهندسة الوراثية تُسمى تقنية “كريسبر” (CRISPR)، والتي تتيح للباحثين تغيير الحمض النووي (DNA) لأيّ كائن حي بسرعة فائقة، بما في ذلك البشر. وقرر العالم كونكلين التخلي عن أسلوبه السابق لنمذجة الأمراض وتبني أسلوب كريسبر. ويعمل مختبره حاليًا بشغف كبير على تغيير الجينات المتعلقة بأعراض أمراض القلب المتنوعة. ووصف تأثير هذه التقنية قائلًا: “إنها تقلب كل شيء رأسًا على عقب”.

مكونات كريسبر الرئيسة وطريقة عملها
المكونان الرئيسان في تقنية كريسبر/كاس9: (إنزيم كاس9/ Cas9 enzyme) الذي يقوم بقص الحمض النووي” DNA”، وهناك جزيء صغير أحادي من الحمض النووي الريبوزي ويُسمى القائد (Guide RNA) الذي يرتبط ويوجه المقص “Cas9” نحو تسلسل معين من الحمض النووي بجوار ما يُسمى سبيسر ذا لون أصفر (Spacer) ليقوم بالقص، ومن ثم إدخال ما يُسمى بالحمض النووي المبرمج (Programmed DNA) (صوره 1).
آلية عمل تقنية كريسبر حسب حاجة العلماء
- لتعطيل الجين: تقوم الخلية عادة بإصلاح القص باستخدام آلية إصلاح الـ DNA الموجودة بداخلها، ولكن قد تحدث أخطاء أثناء الإصلاح مما يمكن الباحثين من استغلال هذا الخطأ في تعطيل الجين أو البروتين بهدف التعرف على وظيفته.
- لإصلاح الجين: عند القطع يتم استبدال الجينات المعطلة بجينات سليمة معدلة.
يقول العالم جون شمينتي (John Schimenti)، عالِم الوراثة في جامعة كورنيل في إيثاكا بنيويورك: “لقد شهدتُ تقنيّتين ثوريّتين منذ عملت في الهندسة الوراثية، هما “كريسبر”، و “تفاعل البوليميراز المتسلسل”، حيث تؤثر تقنية “كريسبر” على العديد من علوم الحياة من عدة نواحي، وهي في ذلك تشبه تقنية تفاعل البوليميراز المتسلسل لتضخيم الجينات، وقد أحدثت ثورة في الهندسة الوراثية، بعد التوصل إليها في عام 1985″.

تمتاز “كريسبر” بأنها سهلة الاستعمال ورخيصة التكلفة، ولذلك اجتاحت هذه التقنية مختبَرات العالم، ويأمل العلماء في استخدامها لتعديل جينات البشر، بغرض القضاء على الأمراض، والتخلص من مسبِّبات الأمراض، واكساب النباتات قوة تحمُّل والكثير من الأهداف الأخرى (صوره 2). تتمتع تقنيات التحرير الجيني – ومن بينها تقنيات التحرير الجيني بإنزيمات النيوكلياز “كريسبر-كاس”(CRISPR–Cas)، وأدوات التحرير الجيني القاعدي بتقنية “كريسبر” (CRISPR)– بالقدرة على إجراء تعديلات دائمة في الجينات المسبِّبة للأمراض لدى المرضى. وتُعَد البرهنة على إمكانية إجراء تعديلات دائمة في الأعضاء المستهدفة لدى الكائنات غير البشرية خطوة رئيسة مهمة، قبل الانتقال إلى إعطاء أدوات التحرير الجيني داخل الجسم الحي في المرضى المشاركين في التجارب الإكلينيكية.

صورة 2: تطبيقات وتحسينات تقنية كريسبر في حياتنا

صورة 1: طريقة عمل كريسبر
في بحث نُشر مؤخرًا يوضح الباحثون أنَّ أدوات التحرير الجيني القاعدي بتقنية “كريسبر”، التي تُعطى داخل الجسم الحي باستخدام جسيمات نانوية دهنية، يمكنها تعديل جينات تُعزى إليها أمراض معينة بكفاءة ودقة في قردة المكاك طويلة الذيل (Macaca fascicularis)، إذ لاحظ العلماء حدوث تعطيل شبه كامل لبروتين (PCSK9) في الكبد بعد جرعة تسريب وريدي واحدة لهذه الجسيمات النانوية الدهنية، صاحَبهُ انخفاض في مستويات بروتين (PCSK9) في الدورة الدموية بنسبة 90ا%، وانخفاض في كوليسترول البروتين الدهني منخفض الكثافة في الدورة الدموية بنسبة 60ا%.وظلت كل هذه التغييرات ثابتة لمدة ثمانية أشهر على الأقل بعد العلاج بجرعة واحدة. وتدعم هذه النتائج التي توصل إليها الباحثون منهجية “العلاج على مرة واحدة” لخفض مستويات كوليسترول البروتين الدهني منخفض الكثافة، وعلاج مرض تصلب الشرايين القلبية الوعائية (وهو السبب الرئيس للوفاة على مستوى العالم)، إضافة إلى أنَّها تقدم إثباتًا لمفهوم استخدام أدوات التحرير الجيني القاعدي بتقنية “كريسبر” بطريقة فعّالة، لعمل تغييرات محددة على مستوى نيوكليوتيدات مفردة في الجينات المُستهدَف علاجها في الكبد، وربما في أعضاء أخرى أيضًا.
