تلـوث الهـواء

وأثره في وظائف الإدراك

أ.د. محمد القاوي – أمراض الجهاز العصبي – جامعة الفيصل

نسمع بين الآونة والأخرى اضطرار بعض البلديات إلى إغلاق مدينة ما أو منع مرور السيارات بسبب وصول تلوث الهواء إلى مستويات خطرة، فما مدى الضرر الذي يمكن أن يحدثه التلوث؟

يعطي مؤشر نوعية الهواء تصورًا رقميًا لمدى خطورة التلوث، ويحتوي على 500 درجة تبدأ من الصفر إلى 500، وكلما ارتفع المنسب فوق درجة 50 ساءت نوعية الهواء. إن معظم تلوث الهواء في المناطق الحضرية هو خليط من الجسيمات الدقيقة والملوثات الغازية الناتجة عن احتراق الوقود في وسائل النقل والصناعة. مصادر التلوث عديدة؛ منها المصانع والمركبات والرياح المثيرة للغبار وإحراق المخلفات وما إلى ذلك. يمكننا ببساطة أن نصنف الملوثات في الهواء إلى الغازات والجسيمات الدقيقة. يندرج تحت الصنف الأول أكسيد الكربون وأكسيد النيتروجين والأوزون السطحي والأبخرة الهيدروكربونية بينما يشتمل الصنف الثاني على ذرات الغبار والعوالق الترابية وجزيئات الكربون وحبوب الطلع وأبواغ الفطريات والعفن. تصنف الجسيمات الدقيقة إلى ذوات الحجم الدقيق دون 2.5 ميكرون والأخرى تكون أكبر من ذلك وقد أضيف إليها قريبًا جسيمات النانو.

ونسمع كثيرًا عن تلويث البلاستيك (اللدائن) للبيئة، لكن قد لا يخطر لنا بعض مصادره. فمثلًا يجري في كل عام إنتاج عشرات الملايين من الأطنان من الألياف البلاستيكية لصنع الأقمشة وتنتشر جزيئات تلك الألياف الدقيقة في الهواء داخل المنازل وخارجها. يمكن أن تنقل الرياح تلك الجزيئات عبر الغلاف الجوي إلى مسافات بعيدة؛ لأن جزيئات البلاستيك النانوية تتطاير أسهل من الجزيئات الدقيقة، وتمكنها خفة وزنها من انتقالها إلى مسافات أبعد عن مصادرها. وقد اكتشفت جزيئات البلاستيك النانوية في بعض المرتفعات وكان متوسط ​​تركيزها في الثلج السطحي 46 نانوغرام/مل. يدخل إلى رئاتنا في كل ساعة أكثر من ألف ليتر من الهواء الذي نتنفسه لكنه قد يحتوي على تلك الشوائب الضارة بأجسامنا ويتراوح تأثيرها من سريع مباشر وظاهر إلى بطيء خفي غير مباشر. درست باستفاضة علاقة تلوث الهواء بأمراض الجهاز التنفسي والوفيات القلبية الوعائية في حال التعرض الحاد والمزمن للجسيمات في الجو. وقد يكون من السهل ملاحظة تأثيرات التلوث المباشرة من احمرار العيون وتهيج بطانة الأنف وضيق التنفس وبخاصة لدى المصابين بالحساسية أو الربو، لكن التأثيرات البطيئة تتطور خلسة وتحتاج إلى متابعة طويلة الأمد لإثباتها. تعاني الأبحاث المتوفرة حاليًا من محدودية عددها واختلاف مؤشرات التلوث المعتمدة والنتائج التي يجري قياسها، كما أن أكثر ما يمكن إثباته هو وجود ترابط إحصائي بين التعرض لتلوث الهواء وتضرر الأجهزة المختلفة في الجسم. الترابط وإن كان لا يثبت علاقة سبب ونتيجة، لكنه يشير إلى احتمال وجود علاقة مطردة.

من هذه التأثيرات الضرر الذي قد يصيب الجهاز العصبي، فقد أظهرت دراسات سابقة دليلًا على حدوث خلل في الحاجز الدموي الدماغي وارتفاع مستوى الوسائط الالتهابية، وزيادة ترسب أميلويد بيتا، الذي يوجد بكثرة في أدمغة المصابين بمرض الزهايمر، ومؤشرات على حدوث أكسدة للحمض النووي، وذلك عند مقارنة تشريح الأدمغة لجثث من عاشوا في مدينة ذات مستويات مرتفعة لتلوث الهواء مقارنة بمن عاشوا في مدينة ذات مستويات تلوث منخفضة. وقد ظهرت دلائل على مثل هذا الترابط لدى فئات عمرية مختلفة. ويعد قياس سُمْك بطانة الشريان السباتي مؤشرًا على تصلب الشرايين والتعرض الطويل للهواء الملوث يؤدي إلى زيادة سُمْك البطانة لدى الكهول، وكذلك فقد أثبتت الدراسات ترابط زيادة سمك البطانة أيضًا بتناقص لوظيفة الإدراك لديهم. كما أنه لوحظ عند المسنين ترابطٌ بين كثرة التعرض للهواء الملوث مع تسارع وتيرة ضعف الإدراك. وقد يكون للعوامل الوعائية الدور الأكبر في حدوث ذلك. ومن الجدير بالذكر أنه فيما يفوق نصف الحالات فإن الضعف الإدراكي المستمر لدى المسنين لا يحدث بسبب مرض الزهايمر، وعليه فإنه من المحتمل أن تكون هناك عوامل بيئية تشارك في إحداث الخرف بالإضافة إلى عوامل الخطر الوعائية الأخرى. 

وفي دراسة مقطعية على ما يقرب من 1500 من المسنين الأصحاء من سكّان لوس أنجلوس ظهر ترابط بين زيادة التعرض لجسيمات التلوث الدقيقة (بحجم دون 2.5 ميكرون) والأوزون وأكسيد النتروجين من جهة وانخفاض الأداء في مجالات محددة من الاختبارات المعرفية. وكذلك ارتبط تعرض الأجنة في الرحم بزيادة احتمال نقص وزن الوليد وتأخر نمو الجهاز العصبي. من الملوثات الغازية الخطرة ما يعرف بالهيدروكربون متعدد الحلقات العطرية وهي مواد سامة للجينوم وموجودة في غازات عوادم السيارات وفي دخان السجائر. أظهرت دراسة شملت غالب البلدان الأوروبية ظهور نسب مرتفعة من (DNA) التالف في دم الحبل السري للأجنة الذين تعرضت أمهاتهم إبّان الحمل إلى هذه المواد. وارتبط تعرض الصغار في مرحلة الطفولة عكسيًا بنتائج التحصيل الدراسي. إن مكافحة التلوث في الجو ضرورة لحياة صحية وآمنة. يحتاج ذلك إلى تضافر الجهود الفردية والرسمية. وعلى سبيل المثال فقد كان التلوث بالرصاص عاملًا مهمًا حين كانت مركباته تضاف إلى وقود السيارات (البنزين أو الغازولين) لتنظيم الاحتراق، لكن نسبته تراجعت بشكل كبير منذ صدر القرار بحظر استخدامه.

Share This