جاؤوا من الجزيرة العربية

أيضًا:

أدلّة جديدة تُشير إلى أنّ أسلافنا لم يأتوا من أفريقيا وحدها

 Michael Marshall – New Scientist – 18/08/2021 ترجمة: أ. مجدي خاطر

أمطار موسميّة غزيرة؛ وآلافٌ من بحيرات وأنهار متشابكة نمت على ضفافها ممرات خضراء، وكساءٌ خضري وارف وحياة بريّة خصبة بين الكثبان الرمليّة، حيثُ عاشت أفيال وحمير آسيويّة وحشيّة وطيور مائيّة وأفراس النهر. هذا هو المشهد في الجزيرة العربيّة منذُ ثمانية آلاف عام تقريبًا؛ وفي فترات متقطّعة إبّان المليون عامًا الماضية، بحسب نتائج أبحاث أركيولوجيين ومتخصصين في علوم التاريخ البشري.

ماضي الجزيرة العربيّة المُورق ليس خبرًا ملفّقًا، بل يُظهر أنّ المنطقة كانت صالحة للسكنى بين تارة وأخرى في الماضي السحيق. وقد حثّ هذا الإدراك الأركيولوجيين على المبادرة إلى تحرّي آثار أشباه البشر (Hominins)، فصيلة الأناسيات أسلاف البشر المُعاصرين، في المنطقة. وفي غضون عقد واحد عثر الباحثون على ما لا يُحصى من المواقع التي عاش بها أولئك الأشباه عبر مئات الآلاف من السنوات، والتي تكشف أنّ الجزيرة العربية لم تكن مُجرّد محطّة توقّف عندها أشباه البشر أثناء هجرتهم من أفريقيا إلى العالم الأوسع، بل بات أغلب الباحثين يرون الآن ضرورة التفكير في الجزيرة العربية باعتبارها جزءًا من «أفريقيا كُبرى»، وأنّها أدّت دورًا لا يُستهان به في تطور الأنواع البشريّة وانتشارها في كل أرجاء الدنيا. ظلّت أفريقيا طوال عقود تُعدّ المهد الأول للجنس البشري؛ إذ ظهر بها أقدم أشباه معروفين للبشر منذُ نحو سبعة ملايين عام، ولبثوا في القارة زمنًا طويلًا تطوروا خلاله إلى أنواعٍ شتّى من بينها ما خلّف لنا مستحاثات شهيرة مثل أحفورتي أردي (Ardi)، (في وادي الأواش بإثيوبيا، وعاش قبل ما يزيد على الأربعة ملايين عام)، ولوسي (Lucy)، (في ولاية عفار بإثيوبيا، وعاشت قبل نحو 3.8 مليون عام)، قبل أن تشرع بعض جماعات منها في الارتحال بعيدًا عن الوطن منذُ حوالي مليوني عام؛ وتوجد بها أقدم رفات معروفة للإنسان العاقل (Homo sapiens)، نوعنا، الذي عاش هناك منذ حوالي ثلاثمائة ألف عام، واستمرّ وجوده في القارة إلى ما قبل ستين ألف عام تقريبًا، عندما هاجر الإنسان الحديث وانتشر في أرجاء الأرض كلها بحسب ما يعتقده أنثروبولوجيون.

عشرة آلاف بحيرة

يقول مايكل بتراجليا (Michael Petraglia) الأستاذ والباحث في معهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ البشري بمدينة ينا في ألمانيا، أنّ متخصصي التطور البشري كانوا يؤمنون بسيناريو شديد الوضوح، مفاده أنّ الجزيرة العربيّة كانت مُجرّد منطقة توقّف عندها أسلاف الإنسان الحديث أثناء ترحالهم إلى أوروبا وآسيا. وقد ترتّب على تلك المزاعم غيابًا لأي أدلّة تُشير إلى وجود أولئك الأسلاف في الجزيرة العربيّة، باستثناء بعض نقوش صخريّة مُدهشة (لا سيّما في موقعي «جبّة» بمنطقة حائل، و«الجمل» بمنطقة الجوف شمال المملكة) يبلغ عُمر أقدمها حوالي عشرة آلاف عام تقريبًا. لكن باحثين في جامعات متفرقة شرعوا في نفس التوقيت تقريبًا؛ منذُ عشر سنوات، بالبحث عن دليل أقدم على وجود أسلاف للبشر في الجزيرة العربيّة. كان الفهم المتزايد لتغير المناخ في حقبة ما قبل التاريخ هو القوة المُحرِّكة الفاصلة في هذا البحث؛ إذ أفاد علماء المناخ القديم (Palaeoclimatology) عبر العقود القليلة الماضية من رواسب أعماق البحار والعينات اللبيّة الجليديّة (Ice Cores) في سبر أغوار المناخ آنذاك، واجتهد صانعو النماذج المناخية من أجل فهم تلك التحولات. وأوضحت هذه المساعي أنّ مُعدّل حرارة الأرض خلال المليوني ونصف المليون عام الفائتة، وهي فترة غطّى خلالها جليدٌ دائم كلا القطبين الشمالي والجنوبي، يُطلق عليها اسم «العصر الحديث الأقرب» أو «العصر البليستوسيني» (Pleistocene)، كان يتذبذب صعودًا وهبوطًا. حيثُ شهدت الفترات الأبرد التي تُسمّى بالفترات الجليديّة (Glacial Periods) تقدّم صفائح الجليد من القطبين، ثمّ تعود للانحسار أثناء الفترات البينجليديّة (Interglacials) الأدفأ. وقد ألقت تلك الدورات بظلالها على الأحوال في الجزيرة العربيّة والصحراء الكُبرى في قارة أفريقيا؛ إذ كانت الأمطار الموسميّة ترتحل شمالًا أثناء الفترات البينجليديّة وتهطل فوق هاتين المنطقتين، ثمّ تعود جنوبًا إبّان الفترات الجليديّة لتخلفهما قاحلتين جافتين.

طرحت هذه النتائج فكرة اتّساع الجزيرة العربية لأنهار وبحيرات إبّان العصور المطيرة، فبادر بتراجليا وزملاؤه في معهد ماكس بلانك إلى التنقيب عنها، حيثُ عثروا في العام 2011 على أولى البحيرات العتيقة في جبل «القطار»، بصحراء النفود الكبير في المملكة العربيّة السعوديّة؛ ووصفوا الكشف عن آثار بحيرة توارى أغلبها أسفل الرمال التي حملتها الرياح، يبلغ عرضها أربعة كيلومترات وطولها عشرين كيلومترًا على الأقل. واكتشف الفريق في الرواسب التي تعود إلى خمسة وسبعين ألفَ عامٍ مضت، أدلّة تُثبت وجود أعشاب وأشجار، إضافة إلى أدوات حجريّة تُشير إلى أنّ أشباه البشر عاشوا في المنطقة. منذ ذلك الحين توالت النتائج المُشابهة التي توصّل إليها بتراجليا وفريقه وآخرون، وعن ذلك يقول: «نعلم الآن أنّ الجزيرة العربية تضم حوالي عشرة آلاف بحيرة قديمة، توصّلنا إلى عِدّة مئات منها، وعثرنا في سبعين بالمائة من البحيرات المُكتشفة على أحافير أو آثار». كما عثر الفريق على أدلّة تفيد بأنّ أشباه البشر عاشوا في منطقة الربع الخالي، واكتشف الباحثون في «عروق المندفن»؛ وهي سهل رملي كان بحيرة نهايةَ عصر البليستوسين، أدوات حجريّة يعود تاريخها إلى ما بين مائة ألف وثمانين ألف عام مضى. 

من هم أولئك البشر؟

امتثل وجود أشباه البشر للتقلبات المناخيّة؛ إذ هبطوا إلى الجزيرة العربيّة حين كان المناخ مطيرًا، وارتحلوا عنها أو انقرضوا حين عاد المناخ جافًّا. يقول بتراجليا: «هذه الدورويّة هي مفتاح كل شيء»، لكن حتّى هذه الفترات الممطرة لم تكن رحلة خلويّة بحسب هيو جروكت (Huw Groucutt) المُتخصص بآثار العصر الحجري القديم الأوسط في الجزيرة العربيّة والباحث في معهد ماكس بلانك؛ ذلك أنّ سقوط الأمطار خلال تلك الفترات كان موسميًّا، ومع ذلك كانت تكفي كي تستوطن أفراس النهر؛ التي تحتاج مجرى مائي دائم عذب يصل عمقه إلى عِدّة مترات، شبه الجزيرة العربيّة. وانعكست جغرافيا الجزيرة العربيّة على المجتمعات التي عاشت بها؛ إذ اتّصل سكّان شمال الجزيرة العربيّة بسكّان أفريقيا، وهو ما ظهر في التشابهات بين الأدوات الحجرية، على عكس سكّان جنوب الجزيرة العربيّة الذين انصرفوا إلى تطوير أدوات خاصّة توحي بعزلتهم.

 مستوطنون أوائل

كانت هذه نقطة فاصلة، لكن ثمّة ما يدعو للاعتقاد أنّ الإنسان العاقل عاش في الجزيرة العربية قبل هذا التاريخ؛ إذ زعم بتراجليا وزميليه أنّ آثار أقدام يعود تاريخها إلى ما بين 121 ألف و112 ألف عام مضت في بحيرة الأثر القديمة بصحراء النفود، تنتسب إلى الإنسان الحديث. ويتراوح عُمر أقدم رفات للإنسان الحديث عُثر عليها لحدّ الآن بين 250 ألف و350 ألف عام، وعثر عليها باحثون في جبل «إيجود» بالمغرب. كما اُكتشفت رفات إنسان حديث يعود تاريخها إلى 210 ألف عام في اليونان، وعظم فكّ في فلسطين يبلغ عمره نحو 177 ألف عام على الأقل.

على أنّ سجل الأدوات الحجريّة يرجع إلى عهود أبعد من الخمسة وثمانين ألف عام؛ هي عُمر أحفورة الوسطى الدليل الوحيد المعروف حتّى الآن على وجود أشباه للبشر في الجزيرة العربيّة، ذلك أنّ باحثين اكتشفوا في موقع «النسيم» بالمملكة العربيّة السعوديّة؛ وهو أقدم المواقع الأشوليّة (Acheulean)، (مرحلة بدأت قبل 1.7 مليون عام إبان العصر الحجري القديم المبكِّر، وتميّزت بابتكار أدوات حجرية ذات وجهين) الموثّقة حتّى الآن في المملكة، أدوات حجريّة يبلغ عمرها نحو ثلاثمائة ألف عام، واكتشف فريق بتراجليا في العام 2018 بحيرة جافّة في منطقة «طعس الغضاة» (بالقرب من مُحافظة تيماء شمال السعوديّة) كانت مُحاطة في ما مضى بمراع وتسكنها أفيال وحمير آسيويّة وحشيّة وطيور مائيّة. وتبدّى أنّ بعض عظام الحيوانات تحمل علامات جروح وأمارات أخرى لنشاط أشباه البشر، إضافة إلى أدوات حجريّة. وقد تراوح عُمر رفات الحيوانات بين ثلاثمائة وخمسمائة ألف عام.

ويستبعد مايكل مارشال (Michael Marshall) الكاتب المُتخصص في الشأن العلمي بمجلّة نيو ساينتست (New Scientist)، فكرة أن يكون أشباه البشر مِمَّن عاشوا في الجزيرة العربيّة قبل خمسمائة ألف عام من جنس الإنسان الحديث، ويُشير إلى أنّ أجناسًا أخرى كثيرة من أولئك الأسلاف كانوا يهيمون في أرجاء أوراسيا وقتئذ، ويستشهد بما تذهب إليه سكيري أنّ البشر البدائيين (Neanderthals)، (أقرب أقرباء البشر المُندثرين، عاشوا في أوروبا ووسط وجنوب غرب آسيا قبل 400 ألف إلى 40 ألف عامٍ مضت) استوطنوا أطراف الجزيرة العربيّة الشماليّة؛ حيثُ اكتشف باحثون رفات إنسان نياندرتال في بلاد الشّام. تقول سكيري: «لدينا أدوات حجريّة في الجزيرة العربيّة شديدة الشبه بالأدوات الحجرية التي عثرنا عليها في المواقع التي تضم مستحاثات إنسان نياندرتال». ربّما لا يكون البشر البدائيون والإنسان الحديث الأسلاف الوحيدين الذين عاشوا في الجزيرة العربيّة؛ إذ تعتقد سكيري ومتخصصون كُثر آخرون أنّ المنطقة كانت أشبه ببوتقة انصهار (Melting Pot)، ترتحل إليها ومنها مجموعات عِدّة تبعًا لتقلبات المناخ. يقول أنتوني سنكلير (Antony Sinclair) بجامعة ليفربول والباحث ضمن مشروع (DISPERSE) التابع لهيئة البحوث الأوروبيّة: «تخميني هو أنّنا على وشك رؤية تشكيلة متنوعة من أجناس أشباه البشر، التي من المُحتمل أن تكون نتيجة امتزاج عدد من سلالاتها».

هجرة وحيدة أم هجرات عديدة؟

ثمّة سؤالان جوهريان، الأول: كيف أفاد الإنسان الحديث من الجزيرة العربيّة عندما شرع في الهجرة من أفريقيا؟ والثاني: ما الدور الّذي أدّته الجزيرة العربية في التطور السالف للإنسان العاقل؟ بالنسبة لـبتراجليا، يقوّض اكتشاف هذا الكمّ الكبير من مواقع أشباه البشر التي تمتد عبر فترة طويلة من الزّمن، وذات الارتباط الوثيق بالتغيير المناخي، السرديّة التي تزعم هجرة الإنسان الحديث دفعة واحدة من أفريقيا قبل نحو ستين ألف عام. وكانت هذه الفكرة تواجه الإخفاق بسبب العدد المتزايد من مستحاثات الإنسان الحديث التي اُكتشفت خارج أفريقيا، ويرجع تاريخها إلى ما قبل الهجرة المزعومة. لكن الجزيرة العربية تُضفي ثقلًا على الفكرة القائلة بوجود هجرات عديدة، في كل مرّة يُصبح بها المناخ والنُّظم البيئيّة مناسبًا. يقول بتراجليا: «أتعهّد النموذج القائل بانتشار الإنسان العاقل على دفعات عبر الزمن». في هذا النموذج، لا يرجع سبب إشارة علم الوراثة لوجود تحوّل كبير قبل ستين ألف عام إلى هجرة جماعيّة ضخمة من أفريقيا، بل بسبب زيادة العدد الكُلّي للمجتمع الإنساني. ويستطرد بتراجليا: «بمعنى آخر، ربما حدث تلف وراثي (Genetic Swamping) لمجموعات صغيرة من السكّان كانت حاضرة في أوراسيا في وقتٍ سابق». الأمر الذي قد يولِّد وهمًا بوجود هجرة جماعية ضخمة وحيدة.

كذلك تُظهر الاكتشافات في الجزيرة العربية أنّ الإنسان الحديث لم يتقيّد بالسواحل في أثناء ترحاله خارج أفريقيا، كما ترتئي بعض أبحاث بين حين وآخر. لا ريب في أنّ بعض الأسلاف لازموا السّاحل في أثناء ترحالهم؛ إذ عثر سنكلير على أدلّة تؤكِّد أنّ بشرًا عاشوا في بضع بقاع على ساحل البحر الأحمر بالجزيرة العربيّة، منها «وادي ذهبان» و«وادي دابس»، لكن البحيرات القديمة المُكتشفة تُظهر أنّ أولئك البشر اجتازوا قلب شبه الجزيرة. ربّما كان المهاجرون مجموعات صغيرة من الصائدين وليسوا أعدادًا كبيرة من السكّان، وما من سبب للاعتقاد بأنّهم كانوا يسعون وراء هدف مُحدد. يقول كروكت: «لم يكن البشر يستهدفون مكانًا بعينه، بل كانوا يتجولون كيفما اُتّفق. شيئًا فشيئًا كانت الفرص تتبدّل، والأمطار الموسميّة تنتقل إلى الشمال، ومع مرور الوقت ارتحل البشر من دون تخطيط مُسبق».

جزء من أفريقيا كُبرى

لفتت هذه النقطة أنظار مُتخصصي المستحاثات البشريّة إلى مسألة بالغة العمق والأهميّة، وهي أنّ الجزيرة العربيّة بالنسبة لأشباه البشر الأفريقيين، كانت كتلة أرضيّة مُتّصلة بأفريقيا رغم أنّها عمليًّا جزء من أوراسيا بسبب انشطار الصفائح التكتونيّة السفليّة. يقول سنكلير: «أعتقد أنّ الجزيرة العربية جزء من أفريقيا كُبرى». لكن سكيري تذهب لأبعد من ذلك؛ إذ ترى أنّ: «أجزاءً من جنوب غرب أسيا؛ وهي المناطق المُجاورة لأفريقيا، ربّما كانت في وقت من الأوقات جزءًا من المجال الرئيس لتطور الإنسان»، وتُدافع عمّا تسميه «تعدديّة إقليميّة أفريقيّة» (African Multiregionalism)؛ وهو سيناريو تغدو فيه أفريقيا مأوى لعدد من أجناس الإنسان العاقل التي انعزلت حينًا، وتهاجنت حينًا آخر، تبعًا لمدى مُلائمة كل إقليم للحياة. وهكذا كانت الجزيرة العربية مهدًا آخر استطاع البشر الأوائل أن يعيشوا فيه، وجزءًا من بوتقة الانصهار التي خرجت منها البشريّة. بعبارة أخرى؛ بحسب مايكل مارشال، نحنُ جميعًا من أفريقيا في نهاية المطاف، لكن علينا أن نُعيد التفكير في تصورنا الخاص بحدود تلك القارة؛ إذ لا ريب في أنّ الجزيرة العربية أسهمت بدور مماثل لما قامت به حشائش السافانا وغابات وسواحل أفريقيا في تشكيل الجنس البشري. وربّما كان الربع الخالي صحراء لافحة اليوم؛ لكنّه كان في سالف الأيام موطن أسلافنا البعيدين. 

Share This