طرق تنمية البلورات
كبيرة الحجم لأشباه الموصلات
د. محمد أبو الريش الفيزياء – جامعة الملك سعود – السعودية
المادة المكونة للكون توجد في حالات مختلفة مثل الغازية والسائلة والصلبة. وقد تعامل الإنسان مع هذه الحالات المتعددة منذ قديم الأزل وبالأخص الحالة الصلبة؛ حيث صنع منها الأسلحة للصيد والدفاع والأدوات للزراعة والصناعة، مما سهّل المعيشة وحسّن الحياة. ومع تقدم العلم والتقنية تطور فهمنا وتعددت استخداماتنا للمواد الصلبة، ومن أهمها مواد أشباه الموصلات، التي تمثل حجر الزاوية لكثير من الأجهزة والصناعات الحديثة، مثل الحواسيب، وأجهزة الاتصالات الذكية، وإضاءات الصمامات الثنائية (الدايود)، والسيارات الكهربائية، والصناعات العسكرية التقنية، والطاقات العالية. إلا أن استخدام أشباه الموصلات في هذه الصناعات مرتبط بوجود بلورات بخصائص معينة كبيرة الحجم (bulk crystal)، تتكون منها أو تُبنى عليها أجهزة أشباه الموصلات. في هذه المقالة سنتناول تعريف البلورة الكبيرة وأهميتها وتأثيرها على جودة أجهزة أشباه الموصلات، والطرق والتقنيات المتعددة لتصنيعها أوما يُعرف بالتنمية (growth). وسيكون مركب الجاليوم نيتريد (GaN) المهم لصناعة الأجهزة الضوئية (optoelectronics) وأجهزة الطاقة العالية (high-power electronics) المثال الرئيس بهذه المقالة.
يتراوح سمك الطبقات الفعّالة لأجهزة أشباه الموصلات عادة من عشرات إلى مئات النانومترات مما يعني صغر حجمها وقابليتها للكسر، كما أنها تُصنع غالبا من غازات كيميائية وتحتاج لسطح تترسب عليه. ولذلك كان وجود البلورة الكبيرة ضرورة للدعم الميكانيكي للجهاز، ولتترسب نواتج تفاعل الغازات عليها.
فما هي البلورة؟
البلورة المثالية هي مادة صلبة، ذراتها (أو جزيئاتها) متراكبة بترتيب دقيق، ويتكرر هذا الترتيب في كل الاتجاهات. وتُسمى المسافة بين الذرات (أو الجزيئات) بأبعاد البلورة (lattice constants) (صورة أ)، وتختلف من مادة صلبة لأخرى. لكن هذا الترتيب الدقيق في البلورات الحقيقية تشوبه بعض التشوهات والعيوب التركيبية (structural defect) (صورة ب)، والتي يمكن تصنيفها من حيث الأبعاد الهندسية كالتالي:


صورة ب : العيوب التركيبية ببلورة 1.نقطي 2.خطي 3.سطحي 4.حجمي

صورة أ : بلورة مثالية في بعدين لها الأبعاد a و b
إن هذه التشوهات والعيوب تؤثر في جودة البلورة الكبيرة، ومن ثم الطبقات الفعّالة للأجهزة المبنية عليها. فعلى سبيل المثال التشوه الخطي (threading dislocation) ينتقل من البلورة الكبيرة إلى الجهاز المبني عليها مما يؤثر على عمره الافتراضي وكفاءته. وقد وجد أن كثرة العيوب الخطية تقلل من عمر أجهزة الليزر المصنوعة من مادة الجاليوم نيتريد. فمثلا إذا زادت كثافته من 5 10 إلى 7 10 لكل سم مكعب فإن العمر الافتراضي لليزر يتناقص من 100000 إلى 1000 ساعة (صورة ج) [1]. أيضا يساعد هذا العيب التركيبي على زيادة الاتحاد بين الإلكترونات والفراغات دون إنتاج ضوء بالأجهزة الضوئية لأشباه الموصلات مما يقلل من كفاءة هذه الأجهزة


صورة ج : العلاقة بين كثافة العيوب الخطية و العمر الافتراضي لجهاز الليزر
وتتغير أبعاد البلورة للمادة الواحدة أيضا بتغير درجات الحرارة، فعلى سبيل المثال إذا تمددت المادة بزيادة درجة الحرارة تزداد أبعاد البلورة. ونسبة التغير تختلف من مادة صلبة لأخرى، وتعتمد على معامل التمدد الحراري (thermal expansion coefficient). وبما أن الطبقات الفعّالة لأجهزة أشباه الموصلات تُصنع غالبا عند درجات حرارة عالية ثم تبرد لحرارة الغرفة؛ فمن المهم أن يكون معامل التمدد الحراري للجهاز وللبلورة الكبيرة متقاربين. إن لم يكن كذلك فإن الجهاز والبلورة الكبيرة سيتقلصان بمعدلات مختلفة مما ينشأ عنه إجهاد بينهما قد يسبب تشققات بالجهاز.


جدول أ : الاختلافات في الأبعاد البلورية ومعامل التمدد الحراري بين الجاليوم نيتريد وبلورات أخرى قد تستعمل كبديل
إن وجود بلورة كبيرة قليلة التشوهات والعيوب التركيبية مهم لجودة طبقات الجهاز الفعّالة التي سيُبنى عليها. أيضا من ناحية المبدأ يُفضل أن تكون مادة البلورة الكبيرة من نفس مادة الجهاز (مثل ليزر الجاليوم نيتريد على بلورة الجاليوم نيتريد)، حيث تتطابق الأبعاد البلورية ومعامل التمدد الحراري لكليهما. لكن لعدم توفر البلورات الكبيرة لبعض المواد أو لتكلفتها الباهظة من الممكن استخدام بلورات من مادة مختلفة عن الجهاز، بشرط قرب أبعادها البلورية ومعاملها للتمدد الحراري من أبعاد ومعامل مادة الجهاز (مثل ليزرالجاليوم نيتريد على بلورة السافير Al2O3 أو السيلكون كربيد SiC أو الجاليوم أرسنايد GaAs (جدول أ)).
طرق وتقنيات تنمية بلورات أشباه الموصلات الكبيرة
الحالة الصلبة
تقنية نمو البلورة من الحالة الصلبة يكون بواسطة الانتشار الذري داخل المادة الصلبة، و عادة ما يكون بطيئًا جدًا. تقنيات نمو الحالة الصلبة شائعة الاستخدام في مجال المعادن للتحكم في خصائصها، مثل: التلدين (annealing) والتبريد المفاجئ (quenching)، لكن لا تُستخدم هذه الطريقة عادة في تنمية البلورات الكبيرة لأشباه الموصلات وإن كانت تستخدم أحيانا لمعالجة أجهزة أشباه الموصلات.
الحالة السائلة
هناك العديد من الطرق لنمو البلورة من الحالة السائلة، ويمكن تقسيمها إلى قسمين: النمو من مصهور مادة البلورة، والنمو من المحلول. ويكون النمو من مصهور مادة البلورة بصهر المادة المطلوبة وتحويلها لسائل، ثم تبريدها ببطء حتى تتبلور بتركيب قليل التشوهات والعيوب. ولهذه الطريقة معدل نمو (growth rate) عالٍ نسبيا وتشوهات تركيبية قليلة، وتُستخدم لتنمية بلورات السيليكون (Si) والجاليوم أرسنايد (GaAs) والأنديوم فوسفايد (InP). ومن أشهر التقنيات لتنمية بلورة أشباه الموصلات من مصهورها تقنية شكراوسكي (Czochralski)، التي تستخدم على نطاق واسع لتنمية بلورات كبيرة على شكل سبائك (ingots) من المواد شبه الموصلة ومن أبرزها مادة السيليكون. تقوم هذه التقنية على صهر مادة السيليكون في بوتقة (crucible)، ثم تقرب من الأعلى بلورة سيليكون صغيرة الحجم نسبيًا (تسمى البذرة seed) حتى تلامس المصهور. يبدأ بعده سحب البذرة للأعلى ببطء وبمعدلات محسوبة (pulling rate)، بحيث تتبلور المادة المصهورة عليها أثناء ارتفاعها لمنطقة أبرد (صورة د). ويستمر السحب حتى تتكون سبائك كبيرة من بلورة السيليكون تتراوح أقطارها من 25umm إلى 300umm (صورة و). وللحصول على بلورات نقية من الشوائب يجب التحكم بالغاز المحيط بالمصهور وكذلك اختيار المادة المناسبة التي تُصنع منها البوتقة. فعلى سبيل المثال يُستخدم غاز الأرجون الخامل وبوتقة السيلكا عند تنمية بلورة السيليكون لتفادي الأكسدة والشوائب.

صورة و : العلاقة بين كثافة العيوب الخطية و العمر الافتراضي لجهاز الليزر

صورة د : رسم تقريبي لتقنية شكراوسكي
وعلى الرغم من أن النمو من المصهور طريقة منتشرة بالمجال الصناعي التجاري لتنمية أشباه الموصلات وغيرها من المواد، فإنه لا يمكن تطبيقها على المواد التي تحلل قبل الانصهار أو لها نشاط كيميائي مرتفع عند درجة حرارة الانصهار. فمثلا مادة الجاليوم نيتريد GaN تتفكك قبل انصهارها إلى غاز النيتروجين ومعدن الجاليوم، ولا يمكن الحصول على مصهورها إلا عند ضغوط عالية تتجاوز 50000 atm ودرجة حرارة تتجاوز 2500oC ، مما يجعل تنميتها من المصهور صعبة ومكلفة [4]. ولمثل هذه المواد تُستخدم طريقة النمو من المحلول.
طريقة النمو من المحلول تعتمد على إيجاد مذيب (solute) مناسب للمادة البلورية المراد تنميتها، حيث تذاب (solvent) مكونات هذه المادة في المذيب، ثم تضاف للخليط البذرة (بلورة صغيرة من المادة البلورية المستهدفة). بداية تذوب المكونات في المذيب حتى يتشبع (saturated)، وبعدها تبدأ المكونات بالترسب والتبلور على البذرة. وتتميز هذه الطريقة بإمكانية تنمية البلورة عند درجات حرارة أقل من درجة الانصهار للمادة البلورية، وهذا يبسط نسبيا الأدوات المستخدمة للتنمية والتحكم بها. ولذلك تعتبر هذه الطريقة من الأقدم في نمو البلورات وأكثرها انتشارا في المجال التقني وخارجه، حيث تستخدم في إنتاج الأسمدة والأطعمة والأدوية. ويندرج تحت هذه الطريقة التنمية بمحفز (flux)، وتنمية الهيدروثرمال (hydrothermal) وسنتناول هذين القسمين لمادة الجاليوم نتريد.


تنمية البلورات بالهيدروثرمال تحصل بالطبيعة، فبلورات البريل (Beryl) ومن أمثلتها الزمرد (emerald) والزبرجد (aquamarine) تنمو بهذه الطريقة لتكوّن أكبر البلورات الطبيعية بكتلة تصل إلى 1000 kg. وتستخدم هذه الطريقة صناعيا لتنمية بلورة الكوارتز (quartz)، حيث تُستخدم في الساعات وأجهزة الراديو والحواسيب. تُسمى هذه التقنية بالهيدرو لأن المذيب غالبا ما يكون الماء، لكن لتنمية الجاليوم نيتريد يكون المذيب سائل الأمونيا الحرج (super-critical ammonia NH3)، ولذلك تُسمى بالأمونوثرمال (Ammono-thermal). وطريقة عمل التقنية كالتالي تقسم كبسولة التنمية (growth reactor) إلى قسمين بدرجتي حرارة مختلفتين. بالقسم الأسخن توجد مادة الجاليوم نيتريد بأحجام صغيرة عشوائية التبلور؛ وحيث إن الذائبية أكبر في هذا القسم تذوب هذه البلورات الصغيرة في سائل الأمونيا، وتنتقل إلى القسم الأبرد بالحمل الحراري. في القسم الأبرد توجد بذرة الجاليوم نيتريد ولأن الذائبية أقل في هذا القسم يتم ترسيب المادة المذابة على البذرة حتى تصبح بلورة كبيرة (صورة ز). تتميز هذه التقنية في تنمية مادة الجاليوم نيتريد عند حرارة وضغط أقل بكثير من التنمية من المصهور كما أن العيوب التركيبية منخفضة نسبيا (انظر الجدول ب).
التقنية الثانية للنمو من المحلول هي وجود المحفز. تتميز تنمية البلورة من المحلول بدرجات حرارة أقل من تقنية التنمية من المصهور لكن معدل التنمية فيها غالبا ما يكون منخفضا. ويرجع السبب في ذلك للذائبية المنخفضة للمادة البلورية، ولذلك يضاف المحفز لزيادة ذوبان المكونات بشكل أكبر مما يزيد معدل التنمية. فعلى سبيل المثال عند تنمية مادة الجاليوم نيتريد يضاف الصوديوم (Na) كمحفز للجاليوم (Ga) بالحالة السائلة لرفع ذائبية غاز النيتروجين (N). وتكون التنمية كالتالي، بداية يساعد الصوديوم على كسر رابطة جزيء النيتروجين وارتفاع ذائبيته بسائل الجاليوم (melt)، وعند تشبع السائل بالنيتروجين يبدأ ترسب الجاليوم نيتريد على البذرة لتنمو مع مرور الوقت وتصبح بلورة كبيرة من الجاليوم نيتريد (صورة ح). تتميز هذه التقنية في تنمية مادة الجاليوم نيتريد بمعدل تنمية أعلى من تقنية الهيدروثرمال وضغط أقل، كما أن الشوائب والعيوب التركيبية منخفضة نسبيا (انظر الجدول ب).

الحالة الغازية
تُستخدم التنمية من الحالة الغازية في بناء أجهزة أشباه الموصلات لسهولة استخدامها، ودقة التحكم بالعوامل المؤثرة على الطريقة، بالإضافة إلى القدرة على تنمية الطبقات الفعّالة المختلفة للجهاز في عملية واحدة. وبالرغم من أن هذه الطريقة تستعمل بكثرة لتنمية الطبقات الفعّالة إلا أنه يمكن استخدامها لتنمية البلورات الكبيرة؛ حيث تتميز بمعدلات تنمية عالية مقارنة بالتنمية من المحلول. وتتعدد تقنيات نمو البلورة من الحالة الغازية إلا أن الكثير منها يشترك بنفس المبادئ الرئيسة وهي وجود مركبات غازية لمكونات البلورة حيث تنتقل بواسطة غاز حامل باتجاه البذرة. ثم تتفاعل المركبات الغازية كيميائيا لتنتج مادة البلورة عند وصولها للبذرة، فتترسب عليها وتنميها. وامتدادا لمثال مادة الجاليوم نيتريد فمن الممكن تنمية بلورتها بتقنية التنمية الهاليدية البخارية (Halide Vapor Phase Epitaxy – HVPE). في هذه التقنية تنقسم كبسولة التقنية (المصنوعة من الكوارتز) إلى قسمين؛ الأول يتدفق فيه غاز الهيدروكلوريد (HCl) فوق بوتقة بها مادة الجاليوم ليشكل غاز الجاليوم كلوريد (GaCl). ثم ينتقل مع الغازات الحاملة مثل النيتروجين أو الأرجون باتجاه منطقة التنمية حيث يتفاعل مع غاز الأمونيا (NH3) حسب التفاعل الكيميائي:
GaCl(g) + NH3(g) → GaN(s) + HCl(g) +H2(g)
ثم يتم ضخ الغازات المتبقية من التفاعل عبر العادم إلى الخارج (صورة ح). تتميز هذه التقنية بمعدل تنمية أعلى من تقنية الهيدروثرمال وتقنية المحفز، وضغط منخفض (الضغط الجوي) وشوائب منخفضة إلا أن العيوب التركيبية أعلى نسبيا بسبب أن البذرة غالبا ما تكون من مادة مختلفة (انظر الجدول ب).

جدول ب : الاختلافات بين تقنيات تنمية بلورة الجاليوم نيتريد

هناك العديد من الطرق والتقنيات لتنمية بلورات أشباه الموصلات الكبيرة، وقد تناولنا أبرزها لتنمية بلورة الجاليوم نيتريد. إنّ اختيار التقنية المناسبة يعتمد على الخصائص الفيزيائية والكيميائية للبلورة، ومعدل التنمية، والجودة التركيبية المستهدفة. ومع التقدم التقني وانتشار أجهزة أشباه الموصلات من حولنا (الحواسيب والأجهزة الذكية والمصابيح والليزر وغيرها) فإن الحاجة تزداد لإنتاج بلورات كبيرة بمعدل نمو سريع، وبجودة تركيبية عالية، وتكلفة منخفضة نسبيًا. وذلك سيسهم بتحسين جودة أداء وزيادة العمر الافتراضي لهذه الأجهزة، مما سينعكس إيجابيًا على جودة الحياة للإنسان.
مرجع
- Motoki, K. “Development of Gallium Nitride Substrates”,2010
- Ehrentraut, E. Meissner, and M. Bockowski, Technology of Gallium Nitride Crystal Growth, Ed. 1: Springer, 2010, ISBN: 978-3-642-04828-9
- Handbook Springer of Crystal Growth Govindhan Dhanaraj, Kullaiah Byrappa, Vishwanath Prasad, Michael Dudley (Eds.) Part A Fundamentals of Crystal Growth and Defect Formation
- Utsumi, et al. “Congruent Melting of Gallium Nitride at 6 GPa and Its Application to SingleCrystal Growth,” Nature Materials, vol. 2, 11, pp. 735-738, 2003.
- Sochacki, “Examination of defects and the seed’s critical thickness in HVPE-GaN growth on ammonothermal GaN seed”,2014
- Kucharski R, et al.” Nonpolar GaN substrates grown by ammonothermal method”,2009
- Imade, et al. “Centimeter-Sized Bulk GaN Single Crystals Grown by the Na-Flux Method with a Necking Technique”,2012