علم ما فوق الجينات:

آمال واعدة لعلاج الأمراض دون تعديل جيني

أ. نورا الخاطر أحياء دقيقة- جامعة الإمام عبد الرحمن بن فيصل- السعودية

تعد تقنية كريسبر (CRISPR) أحد أهم التطورات العلمية في مجال الهندسة الوراثيّة في القرن الحالي حتى الآن، وهي منظومة تتيح تعديلًا جينيًّا سريعًا، غير مكلف وملائم لأيّ تسلسل حمض نووي (DNA) نختاره. تمكّن الباحثون بتقنية كريسبر من إدخال جينات العنكبوت للعثّ، وتمكين خلايا الجلد في الفئران من إنتاج بروتين يساهم في تنظيم السّكّري، وغيرها الكثير من التّعديلات. فهذه التقنية لها تطبيقات واسعة في الزراعة والطب، بل وحتى علاج بعض الأمراض الوراثية، مثل داء هنتنغتون، والتليف الكيسي، وبعض أنواع السرطانات. لكن وبعيدًا عن الأضواء، تثير هذه التقنية أيضًا مسائل معقدة فيما يخص الناحية الأخلاقية والسياسية. فهل يمكن تجنب هذه المسائل ببديل أكثر أمانًا؟ هذا ما أشعل فتيل حماس الباحثين نحو إمكانية تطويع علم ما فوق الجينات لإيجاد تقنية بديلة دون أن تُغيّر في تسلسل الحمض النووي.

المقص الجيني

كريسبر-كاس9 «المقص الجيني» أحد أهم التطورات العلمية في القرن الحالي، حيث تتيح تغيير تسلسل الحمض النووي وتعديل وظيفة الجينات بسهولة. كلمة كريسبر هي اختصار لمصطلح «التكرارات العنقودية المتناظرة القصيرة منتظمة التباعد»، إذ تعتمد هذه التقنية على تحديد الجزء المراد تعديله باستخدام دليل من الحمض النووي الريبوزي (gRNA) يتعرف على هذا الجزء بدقة كبيرة. أما «كاس9» فهو إنزيم يعمل بمثابة مقص جزيئي يقوم بقص شرائط الحمض النووي في نقاط بعينها بهدف التخلص من الجينات المعيبة. وقد اُستلهمت هذه التقنية من نظام الدفاع الطبيعي لدى البكتيريا لإحباط هجمات الفيروسات حيث اكتشفها علماء يابانيون في بكتيريا الإشريكية القولونية (E.coli) لأول مرة عام 1987.

تعديلٌ فاعل لكنّه معرّض للخطأ

بالفعل تعد تقنية «كريسبر- كاس9» أداة قوية جعلت عملية التحرير الجيني أسرع وأرخص وأيسر من حيث التشغيل، حيث تتيح تغيير تسلسل الحمض النووي وتعديل وظيفة الجينات بسهولة وتُجرى منذ أكتوبر 2020، 115 تجربة إكلينيكية باستخدام تقنيات التحرير الجيني البشري، وفقًا لمركز التحرير الجيني البشري بمنظمة الصحة العالمية، لعلاج الأمراض الوراثية المنتشرة، مثل فقر الدم المنجلي، وثلاسيميا بيتا. وفي شهر مارس 2020، وُصف أول علاج جيني باستخدام تقنية كريسبر-كاس9، لشخص يعاني من حالة نادرة تسبب عمى الأطفال ولا يوجد لها علاج آخر في الوقت الحالي، تُعرف باسم(10LCA). حيث استخدم العلاج في هذه الحالة للقضاء على تحول جيني (290CEP) يسبب هذه العلة.

صورة 1: رسم توضيحي لنظام كريسبر-كاس9. المصدر: Diagenode

إلا أن هذه التقنية لها أيضًا بعض المخاطر والمحاذير، إضافةً إلى إثارتها مسائل معقدة فيما يخص الناحية الأخلاقية والسياسية والبراءات. أحد المخاطر يتمثل في كون «إنزيم كريسبر-كاس9» له تأثيرات غير مستهدفة على عدة مواقع في الجينوم. فمثلًا في بعض الأحيان قد يؤدي إجراء عمليات القطع المزدوج في الحمض النووي إلى حدوث عمليات إدخال مادة وراثية غير مرغوبة أو عمليات حذف كبرى وغير متوقعة، مما قد ينتج عنها آثارٌ سلبية. وبناءً على ذلك، وجد الباحثون طريقة جديدة تعتمد على التعديل فوق الجيني وأيضًا على كريسبر، لكنّها تعد بأن تكون أكثر أمانًا حيث إنها لا تحدث قطع في الحمض النووي، ولا تغيّر في تسلسل القواعد النيتروجينية في المادة الوراثية. قد تؤدّي هذه الطّريقة، والّتي يطلق عليها اسم (Epigenome editing) إلى الثّورة القادمة في الهندسة الوراثيّة وحتى نفهم هذه التقنية لنلقي نظرة على علم ما فوق الجينات، ما هو وأهميته وعلاقته بالبيئة والأمراض.

نظرة على علم ما فوق الجينات

علم التَخلّق -ما فوق الجينات- هو حقل علمي ناشئ يدرس التغيرات التي يُحدثها تنشيط الجينات وتثبيطها دون إحداث أي تغيير على سلسلة الحمض النووي. اُستخدم هذا المصطلح لأول مرة للإشارة للتفاعلات المعقدة بين الجينوم والبيئة والتي لها دور في التطور وتمايز الخلايا في المخلوقات. تتعدد التعريفات، ولكن من المهم معرفة بأن التعديلات فوق الجينية تُنشّط الجينات أو تثبطها، فبالتالي تمنع أو تسمح للجين بإنتاج البروتين وهذه التعديلات يمكن توارثها عبر الأجيال. من الأمثلة على الآليات التي تُحدث مثل هذه التغيرات مَثيَلة (DNA) وتعديل الهستونات اللذان يُغير كل منهما كيفية التعبير عن الجينات من دون تغيير تسلسل (DNA) الخاص بها.

مَثيَلة الحمض النووي

وذلك بإضافة مجموعات الميثيل لسلسة الحمض النووي. نموذجيًا، تُضاف هذه المجموعات في مواقع محددة من سلسلة الحمض النووي، لتُعيق ارتباط البروتينات القارئة للجين بالحمض النووي. وتُزال هذه المجموعة الكيميائية بعملية تُسمى إزالة المثيَلة. تؤدي مَثيَلة الحمض النووي عادةً إلى منع نسخ الجينات بالتالي تثبيطها.

تعديل الهستونات

تلتف سلسلة الحمض النووي حول مجموعة بروتينات تُسمى بالهستونات. فإذا كان الحمض النووي ملتفًا بإحكام حول الهستونات، فإنه يصعب على البروتينات القارئة للجينات الوصول لمناطق النسخ في الحمض النووي وكنتيجة لذلك يُثبّط الجين. يمكن تغيير مدى التفاف الكروماتين حول الهستونات، أي التثبيط أو التنشيط عن طريق إحدى عمليات التعديل على الهستونات، وتتضمن عمليات الأستلة (إضافة مركب الأستيل)، والفسفرة (إضافة فسفور)، والمثيلة (إضافة مركب الميثيل). تبدأ التغيرات ما فوق الجينية قبل الولادة حين مرحلة تمايز الخلايا. جميع خلاياك تحتوي على الشفرة الوراثية نفسها، ولكن في مرحلة التطور الجنيني تساعد ما فوق الجينات على تحديد وظيفة الخلية هل ستكون خلية عصبية أم كبدية على سبيل المثال. ولا تتوقف التغيرات فوق الجينية عند ذلك، بل تستمر في مراحل حياتك، استجابةً للتغيرات السلوكية والبيئية. مثال لتوضيح ذلك، وُجد أن مستوى المَثيَلة لدى المدخنين أقل من غير المدخنين ويتضح ذلك لدى المدخنين بشراهة على المدى الطويل، ويمكن رجوع مستويات المَثيَلة إلى المستوى الطبيعي بعد الإقلاع بفترة زمنية. دراسة الجينات المرتبطة بالأمراض وإمكانية تنشيطها أو تثبيطها بالتعديل فوق الجيني قد يفتح الآفاق لِنهجٍ جديد في علاجها.

صورة2: رسم توضيحي لتقنية التعديل فوق الجيني باستعمال كريسبر-كاس9 مصدر: N. DESAI/SCIENCE

تقنية التعديل ما فوق الجيني باستخدام كريسبر

في التعديل ما فوق الجيني تُستخدم أداة التحرير الجيني كاس9، ولكن نسخة مثبّطة «ميّتة» منه (9dCas) وذلك حتى يرتبط بالحمض النووي دون إحداث أي عمليات قطع فيه. يتّجه انزيم (9dCas) مباشرةً إلى المناطق التحفيزية في الجين، ثم يقوم البروتين «المستجيب» المرفق بإضافة أو إزالة العلامات الكيميائية على الحمض النووي وبروتينات الهيستون التي يلتف حولها، مما يؤدي إلى زيادة نشاط الجين أو خفضه. من مميزات التعديل الفوق جيني، أنه قابل للبرمجة، وقابل للضبط، وقابل للعكس ولا يتطلب تكسير الحمض النووي، متجاوزًا بشكل فعال السُمية الخلوية المرتبطة بتعديل الجينات.

تقنية التعديل ما فوق الجيني باستخدام كريسبر

في التعديل ما فوق الجيني تُستخدم أداة التحرير الجيني كاس9، ولكن نسخة مثبّطة «ميّتة» منه (9dCas) وذلك حتى يرتبط بالحمض النووي دون إحداث أي عمليات قطع فيه. يتّجه انزيم (9dCas) مباشرةً إلى المناطق التحفيزية في الجين، ثم يقوم البروتين «المستجيب» المرفق بإضافة أو إزالة العلامات الكيميائية على الحمض النووي وبروتينات الهيستون التي يلتف حولها، مما يؤدي إلى زيادة نشاط الجين أو خفضه. من مميزات التعديل الفوق جيني، أنه قابل للبرمجة، وقابل للضبط، وقابل للعكس ولا يتطلب تكسير الحمض النووي، متجاوزًا بشكل فعال السُمية الخلوية المرتبطة بتعديل الجينات.

يوجد حاليًّا العديد من تقنيات التعديل فوق الجيني، والتي تختلف بناءً على تصميم البروتينات المستجيبة المرتبطة بإنزيم (9dCas)، وصف باحثون في جامعة كاليفورنيا في سان فرانسيسكو ومعهد وايتهيد مؤخرًا في ورقة بحثية نُشرت في 9 أبريل 2021 بمجلة (Cell)، تقنية مستحدثة تسمى (CRISPRof) والتي تسمح للعلماء بإيقاف تشغيل أي جين تقريبًا في الخلايا البشرية دون إجراء تحرير واحد للشفرة الجينية. أظهر الباحثون أيضًا أنه بمجرد إيقاف تشغيل الجين، فإنه يظل خاملًا في نسل الخلية لمئات الأجيال لما يصل إلى 350 جيلًا، ما لم يُفّعل مرة أخرى باستخدام أداة تكميلية تسمى (CRISPRon)، والتي وُصفت أيضًا في الورقة، حيث إن تصاميم تقنيات التعديل فوق الجيني السابقة لم يكن من الواضح ما إذا كان إسكات الجين قابلًا للتوريث.

ومن الجدير بالذكر، أن هذه التقنية تستطيع إسكات معظم الجينات حتى الجينات التي لا تحتوي على (CpG islands)!! ولِنفهم ما الذي يعنيه ذلك، يتكون الحمض النووي من أربعة قواعد نيتروجينية – (A)، (C)، (G)، (T) – ولكن بشكل عام، مَثيَلة (Cs) التي تقع بجانب (Gs) هي فقط المتحكمة في إسكات الجينات في مواقع بالجينوم حيث تكون تسلسلات (CG) شديدة التركيز، وهي مناطق تُعرف باسم (islands CpG) كما كان مُعتقدًا منذ فترة طويلة. يقول لوك جيلبرت، مؤلف مشارك في الورقة البحثية: «ما كان يُعتقد قبل هذا العمل هو أن %30من الجينات التي لا تحتوي على (islands CpG) لا يُتحكم فيها عن طريق مَثيَلة الحمض النووي، لكن عملنا يظهر بوضوح أنك لا تحتاج إلى (islands CpG) لإيقاف الجينات عن طريق المَثيَلة. كان ذلك، بالنسبة لي، مفاجأة كبيرة».

تطبيقات

لتقنيات التعديل فوق الجيني العديد من التطبيقات تتضمن: دراسة نشاط ووظيفة المحفز الجيني، وتحديد وظيفة مواقع مثيلة معينة، والهندسة الوظيفية، واستكشاف مبادئ الوراثة اللاجينية. قد يتيح التنظيم المستهدف للجينات المرتبطة بالأمراض علاجات جديدة للعديد من الأمراض، خاصةً في الحالات التي لم تُطور فيها علاجات جينية مناسبة. في أحد الأمثلة الموصوفة في اجتماع للعلاج الجيني في واشنطن العاصمة، قام فريق إيطالي بتقليل تعبير جين في الفئران لخفض مستويات الكوليسترول لدى الحيوانات لأشهر، بينما تعمل فرق أخرى لاستكشاف تحرير الإبيجينوم لمعالجة كل شيء من السرطان إلى الألم إلى مرض هنتنغتون، والذي يُعد اضطرابًا دماغيًا قاتلًا. في العام الماضي، وكبديل محتمل للأدوية الأفيونية، استخدم مجموعة من الباحثين تعديل الإبيجينوم لإيقاف الجين المرتبط في إدراك الألم لأشهر عدّة.

صورة3: رسم توضيحي ل (CRISPRoff) و (CRISPRon).

الجزيئات النانوية لموصليّة أعلى دقة وكفاءة؟

لإيصال منظومة التعديل فوق الجيني للخلية المطلوبة يستخدم العلماء الفيروس المرتبط بالفيروس الغدي (AAV). وما يجعله خيارًا جيّدًا كناقل فيروسي في العلاج الجيني هو أنه يمكن أن يؤدي استخدام (AAV) إلى إصابة كل من الخلايا المنقسمة وغير المنقسمة دون الاندماج في جينوم الخلية المضيفة، بينما يُوصّل الحمض النووي المُشفّر للمُحرِر فوق الجيني إلى الخلايا بكفاية حيث إن آلية صنع البروتين في الخلية ستستخدم ترميز الحمض النووي لإنتاج المُحرِر بثبات في الخلية. مثال على ذلك، قام فريق باستخدام نهج التوصيل باستخدام (AAV) في الفئران لمعالجة نوع من أنواع السمنة الوراثية، وكذلك متلازمة دريفت، وهي شكل حاد من الصرع عن طريق رفع المستويات المنخفضة بشكل غير طبيعي من البروتين. على الرغم من اختيار هذا النهج في التوصيل من قِبل عددٍ من الفرق البحثية، إلا أنه يُعد مُكلفًا، ويمكن أن يؤدي إلى استجابة مناعية نتيجة تشفير البروتينات الدخيلة من الفيروس. اقترح العلماء إمكانية استخدام الجسيمات النانوية الدهنية، لحمل الرنا المرسال (mRNA). بهذه الطريقة، تُصنِّع الخلايا البروتين لفترة وجيزة فقط، وتقل احتمالية أن تؤدي إلى استجابة مناعية أو إجراء تعديلات فوق الجينوم في أماكن غير مقصودة. فهل يمكن اعتبار التوصيل بهذه الجسيمات النانوية آمنة على نطاق واسع؟ لاسيَّما بعد حقنها في مئات الملايين من الأشخاص في العامين الماضيين لتوصيل (mRNA) للقاحات كوفيد-19.

الخاتمة و التوصيات

تُمثل تقنية التعديل فوق الجيني تقنية واعدة في العديد من المجالات ويحثّ العلماء باستخدام هذه التقنية الجديدة للبدء في اكتشاف حالات قابلة للتنفيذ حيث تُعطل الجينات التي يجب أن تكون قيد التشغيل عن طريق مَثيَلة الحمض النووي، على سبيل المثال، جين الأنسولين في مرض السكري – واستخدام هذه التقنية لإنشاء نماذج جديدة لعلاج الأمراض. لازالت تقنيات التعديل فوق الجيني تخضع لمزيد من التطورات، حيث يحتاج الباحثون إلى ضبط محرراتهم فوق الجينية، وتجربتها على جينات وأنسجة مرضية أخرى، واختبارها في حيوانات أكثر من أجل السلامة قبل الانتقال إلى البشر واستخدامها بشكل أساسٍ في العلاج الجيني.

Share This