عندما تلتقي التكنولوجيات
الحيوية و ذكاء الآلة رحلة الاستكشاف والابتكار
د. ندى الدرة – التغذية وتنظيم الغذاء- جامعة بيروت العربية – لبنان
د.م. شادي البرقوني – الذكاء الاصطناعي – جامعة بون- ألمانيا
لا يُصدَّق مدى تعقيد جسم الإنسان. فمن أجل علاج مرض بفاعلية، يستغرق الأمر سنوات طويلة لاكتشاف دواء جديد، من خلال إجراء تجارب مختبرية وسريرية لإثبات فعالية الدواء وترخيصه. وقد لعب الذكاء الاصطناعي دورًا فعالًا في المجال الطبي. فما هو دور الذكاء الاصطناعي في تسريع هذه العملية؟ يتوقع الخبراء، بحسب أحدث التقارير (Alex Devereson, Christoph Sandler, and Lydia The, 2022)، بأن الذكاء الاصطناعي يُمكن أن يُسرِّع تطوير الأدوية للأفضل، وبالتالي يُحسِّن جودة حياة الملايين من الأشخاص. ولكن لتحقيق ذلك، يجب على الشركات تغيير ممارساتها التجارية.
في عصرنا الحالي، يقف مجالان في طليعة الابتكار: التكنولوجيا الحيوية، والذكاء الاصطناعي (AI) (شكل 1). تعتمد التكنولوجيا الحيوية على تسخير قوة الكائنات الحية لتطوير المنتجات، والخدمات التي تُفيد المجتمع، بينما يُركز الذكاء الاصطناعي على إنشاء آلات ذكية قادرة على التفكير والتعلم واتخاذ الإجراءات. على الرغم من تمييز هذين المجالين، إلا أنهما يشتركان في هدف واحد؛ دفع حدود ما هو ممكن في العلوم والتكنولوجيا. نظرًا لأن التكنولوجيا الحيوية تفتح إمكانيات جديدة في مجالات الرعاية الصحية والزراعة والعلوم البيئية، فإن الذكاء الاصطناعي يوفر الأدوات الحسابية والخوارزميات لتحليل كميات هائلة من البيانات واتخاذ قرارات ذكية. يحمل التقارب بين التكنولوجيا الحيوية والذكاء الاصطناعي إمكانات هائلة، وحلولًأ رائدة للتحديات المعقدة، وإحداث ثورة واعدة في الصناعات في جميع أنحاء العالم، وذلك من خلال الجمع بين نقاط القوة الفريدة لكِلا المجالين. ولكن يبقى السؤال عن ماهية الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الحيوية، وكيف يمكن للذكاء الاصطناعي أن يلعب دورًا في تطبيقات التكنولوجيا الحيوية، وما هي التحديات والعقبات القائمة؟ كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على التكنولوجيا الحيوية؟ ما هي تحديات استخدام الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا الحيوية؟ وكيف يمكننا ضمان مصداقية الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا الحيوية؟

شكل 1: وفقًا لماكينزي، أهم 10 اتجاهات تقنية ستشكل العقد القادم. مستنسخة من مرجع (Fleming, 2021).
ما هي التكنولوجيا الحيوية؟
هي مجال علمي متعدد التخصصات، يطبق مبادئ علم الأحياء والكيمياء والهندسة للاستفادة من الكائنات الحية والخلايا والمكونات الجزيئية، لتطوير المنتجات والعمليات والخدمات. تم صياغة تعريفها من قبل العالم المجري كارولي إريكي (KarlEreky) في مطلع القرن الماضي، في كتابة الذي صدر عام 1919 بعنوان “Biotechnologie” ، وترجم بعد ذلك لعدة لغات، حيث تُسخر هذه التكنولوجيا القدرات الطبيعية للكائنات، مثل البكتيريا والخميرة والنباتات، لأداء مهام محددة أو إنتاج مواد قيمة. تشمل التكنولوجيا الحيوية مجموعة من التقنيات، بما في ذلك الهندسة الوراثية، وزراعة الأنسجة، والتخمير. ويتم استخدام هذه التقنيات في مجالات متنوعة مثل الطب، والزراعة، والحفاظ على البيئة، والتطبيقات الصناعية. كما تشمل تطبيقاتها تطوير الأدوية المنقذة للحياة، والمحاصيل المعدلة وراثيًا، والوقود الحيوي، والمواد الصديقة للبيئة. إذ أن التكنولوجيا الحيوية مدفوعة بالابتكار، ولديها القدرة على مواجهة التحديات العالمية المُلحّة مع طرح الاعتبارات الأخلاقية والمجتمعية التي تتطلب مداولات وتنظيمًا دقيقين.
فيما يلي بعض الأمثلة الملموسة لكيفية عمل التكنولوجيا الحيوية في مجالات مختلفة:
1) الطب والرعاية الصحية:
أحدثت التكنولوجيا الحيوية ثورة في الطب، من خلال تمكين تطوير الأدوية المنقذة للحياة والعلاجات المبتكرة. فلعلّ أهم تلك الابتكارات هو لقاح (BioNTech-Pfizer)، وهو نوع من لقاح “الحمض النووي المرسل” (mRNA)، يعمل عن طريق إدخال قطعة صغيرة من مادة وراثية تسمى (mRNA) في خلايا جسم الانسان. ويوفر تعليمات لإنتاج بروتينات شوكية غير ضارة موجودة على سطح فيروس (COVID-19). ثم تقوم خلايا الجسم بإنتاج هذه البروتينات الشوكية، مما يؤدي إلى استجابة مناعية تساعد أجسامنا في التعرف على الفيروس الفعلي ومكافحته إذا واجهه الجسم في المستقبل، مما يوفر الحماية من (COVID-19). يُستخدم هذا النهج التكنولوجي الحيوي (mRNA) لتوجيه خلايا الجسم، وهو طريقة آمنة وفعالة لبناء المناعة. تلعب التكنولوجيا الحيوية أيضًا دورًا مهمًا في تطوير الطب الشخصي، حيث يتم استخدام المعلومات الجينية لتخصيص العلاجات للمرضى.
2) الزراعة:
لقد طورت التكنولوجيا الحيوية الزراعة من خلال المحاصيل المعدلة وراثيا. يستخدم العلماء أدوات التكنولوجيا الحيوية لإدخال السمات المرغوبة في المحاصيل، مثل تحسين مقاومة الآفات أو الأمراض أو الإجهاد البيئي. ساعدت هذه التقنية في زيادة غلة المحاصيل، وتقليل استخدام المبيدات، وتحسين جودة الغذاء.
2) الزراعة:
لقد طورت التكنولوجيا الحيوية الزراعة من خلال المحاصيل المعدلة وراثيا. يستخدم العلماء أدوات التكنولوجيا الحيوية لإدخال السمات المرغوبة في المحاصيل، مثل تحسين مقاومة الآفات أو الأمراض أو الإجهاد البيئي. ساعدت هذه التقنية في زيادة غلة المحاصيل، وتقليل استخدام المبيدات، وتحسين جودة الغذاء.
3) الحفاظ على البيئة:
تُقدم التكنولوجيا الحيوية حلولاً للتحديات البيئية. أحد الأمثلة على ذلك هو استخدام الكائنات الحية الدقيقة لتنظيف البيئات الملوثة. تُستخدم مناهج التكنولوجيا الحيوية أيضًا لتطوير المواد القابلة للتحلّل الحيوي، والوقود الحيوي، والبدائل المستدامة للمنتجات البلاستيكية التقليدية. لعلّ أهم تلك التطبيقات هو استخدام التكنولوجيا الحيوية لتحويل نفايات الطعام إلى مصدر طاقة مستدام. ومن الطرق استخدام الهضم اللاهوائي، وهي عملية تكسر المادة العضوية في غياب الأكسجين. تنتج هذه العملية الغاز الحيوي، وهو خليط من الميثان وثاني أكسيد الكربون الذي يمكن استخدامه لتوليد الطاقة. طريقة أخرى هي استخدام التخمير؛ وهي عملية تكسير المواد العضوية باستخدام البكتيريا أو الخميرة لتنتج هذه العملية الكحول.
4) التطبيقات الصناعية:
وجدت التكنولوجيا الحيوية تطبيقات في مختلف الصناعات. حيث تستخدم الإنزيمات المشتقة من الكائنات الحية الدقيقة في إنتاج منظفات الغسيل، مما يسمح بإزالة البقع بشكل أكثر فعالية. كما تتضح إمكانات التكنولوجيا الحيوية في إحداث ثورة في صناعة البلاستيك لمستقبل مستدام. وقد أكد الباحثون أنه من خلال دمج مبادئ إعادة التفكير والتقليل وإعادة التدوير، ستقدم التكنولوجيا الحيوية حلولًا مبتكرة لمعالجة أزمة البلاستيك. يمكن أن يسهم علم الإنزيمات والأحياء الدقيقة بضمان السماح للمنتجات -بالمواد البلاستيكية الصديقة للبيئة- أن تصل إلى السوق. يُظهِر استخدام الموارد المتجددة وثاني أكسيد الكربون كمصادر للكربون، جنبًا إلى جنب مع التوليف الميكروبي للمونومرات والبوليمرات، الدور الواعد للتكنولوجيا الحيوية في قيادة التحول إلى اقتصاد بلاستيكي دائري قائم على أساس حيوي مما يمهد الطريق لمستقبل أكثر اخضرارًا.
5) علم الطب الشرعي:
تلعب التكنولوجيا الحيوية دورًا حاسمًا في علم الطب الشرعي، لا سيما في تحليل الحمض النووي (DNA). تُستخدم تقنيات مثل تفاعل البوليميراز المتسلسل (PCR) وتسلسل الحمض النووي لتحديد الأفراد، وحل الجرائم، وتحديد التوافق الجيني للأزواج للوقاية من الأمراض الوراثية.
ما هو بالضبط الذكاء الاصطناعي؟
يشير الذكاء الاصطناعي(AI) إلى مجال علوم الكمبيوتر الذي يركز على إنشاء وُكلاء أذكياء. يتم تصميم هؤلاء الوكلاء لامتلاك قدرات استثنائية على التفكير، والتعلم، واتخاذ القرارات بشكل مستقل. التعلم الآلي (i(Machine Learning”ML”i ، والتعلم العميق (i(Deep Learning”DL”i هما مكونان أساسيان للذكاء الاصطناعي ويلعبان دورًا مهمًا في تحقيق هذه الأهداف.
يتضمن التعلم الآلي تطوير النماذج والخوارزميات التي تُمكن أنظمة الكمبيوتر من التعلم من البيانات والخُبرات، وتحسين أدائها بمرور الوقت، بدلاً من أن تكون مُبرمجة بشكل صريح لتنفيذ مهام مُحددة. من ناحية أخرى التعلم العميق، هو مجموعة فرعية من التعلم الآلي والمستوحاة من الشبكات العصبية البشرية. يتيح التعلم العميق، الذي يتميز بنماذج حسابية تتكون من طبقات متعددة، تعلم تمثيل البيانات على مستويات مختلفة من التعقيد (شكل 2). أحدث هذا النهج ثورة في مجالات مثل التعرف على الكلام، والتعرف البصري على الأشياء، واكتشاف الأشياء، واكتشاف الأدوية، وعلم الجينوم. الجدير بالذكر أن الشبكات العصبية التلافيفية (Convolutional Neural Networks) قد حققت تقدمًا ملحوظًا في معالجة الصور والفيديو والكلام والصوت، بينما أضاءت الشبكات المتكررة (Recurrent Neural Networks) فهم البيانات المتسلسلة، بما في ذلك النص والكلام. باختصار، لقد حول التعلم العميق المجالات المختلفة من خلال تمكين الآلات من تعلم التمثيلات المعقدة من البيانات، وإحداث ثورة في قدراتنا في الإدراك والفهم والتحليل.

شكل 2: ماهية الذكاء الاصطناعي.
بالأعلى تجد الشبكات العصبية المتكررة (RNNs) تستقبل تمثيلًا عالي المستوى للصور من قبل الشبكات العصبية التلافيفية (CNNs) لتدريبها على ترجمة الصور لتسميات توضيحية. بالأسفل، تلاحظ بأن (RNNs) لديها القدرة على تركيز انتباهها على مواقع مختلفة في الصورة – تم إعطاء البقع الأكثر إضاءة مزيدًا من الاهتمام – ومترابطة مع كل كلمة غامقة تم توليدها.
كيف تعمل تلك الشبكات العصبية التلافيفية (CNN)؟
الشبكات العصبية التلافيفية (CNN) هي نوع من نماذج الذكاء الاصطناعي الذي يحاكي الطريقة التي تعالج بها أدمغتنا المعلومات المرئية، وهي مصممة خصيصًا لفهم وتحليل الصور. تخيل أن لديك صورة كوب من قهوة الإسبريسو كما في (الشكل 3). إن شبكة (CNN) تشبه الدماغ الذي ينظر إلى الصورة في طبقات. تلاحظ الطبقة الأولى الأشياء الأساسية مثل الحواف والأشكال، فقد تكتشف الخطوط التي تتكون منها حواف الكوب. عندما تتحرك الصورة عبر كل طبقة، تصبح شبكة (CNN) أكثر تعقيدًا، وتبدأ في التعرف على الأنماط المعقدة. في الطبقة التالية، قد تكتشف مجموعة الخطوط التي تشكل مقبض الكوب، بينما في طبقة أخرى قد تحدد ميزات معينة. تتعلم (CNN) من خلال التدريب على مجموعة كبيرة من الصور المصنفة، ويقارن ما تراه في الصورة بالتسميات المعروفة. على سبيل المثال، إذا أخبرت بيانات التدريب شبكة (CNN) أن بعض الميزات تشير إلى كوب القهوة، فسوف تتعلم التعرف على تلك الميزات في الصور الجديدة. بمرور الوقت، تصبح (CNN) أفضل في التعرف على أكواب القهوة في أوضاع أو ظروف إضاءة مختلفة. تمتلك شبكات (CNN) العديد من التطبيقات التي تتجاوز مجرد تحديد أكواب القهوة، فيمكن استخدامها في السيارات ذاتية القيادة للتعرف على إشارات المرور والمشاة، وفي التصوير الطبي لاكتشاف الأمراض، وفي العديد من المجالات الأخرى، حيث يكون فهم المعلومات المرئية أمرًا مهمًا.

شكل 3: خاصيه الالتفاف
إحدى التقنيات القوية المستخدمة في شبكات (CNN) تسمى الالتفاف (انظر إلى الصندوق المحدد باللون الأسود يسار الصورة). تضمن تحريك مرشح أو نافذة صغيرة فوق الصورة، وإجراء العمليات الحسابية في كل خطوة. يساعد ذلك شبكة (CNN) في تحديد الأنماط والميزات في أجزاء مختلفة من الصورة. باستخدام مرشحات متعددة، يمكن لـ (CNN) اكتشاف العديد من الميزات في وقت واحد. بمجرد اجتياز (CNN) لجميع طبقاتها، والتعرف على الميزات المهمة (انظر إلى الصندوق المحدد باللون الأسود يمين الصورة)، يمكنها إجراء تنبؤات. قد يقول، “هذه الصورة يُرجح أن تكون كوب قهوة إسبريسو بنسبة90i%، ومن المحتمل أن تكون برتقاله بنسبة 10i%”، يعتمد هذا التوقع على الأنماط والميزات التي تعلمها. يمكنك تعلم المزيد من خلال هذا الرابط التفاعلي https://poloclub.github.io/cnn-explainer/.

شكل 4: تطبيقات التعلم الآلي في الهندسة الوراثية.
(a) مفهوم التعلم المشرف، حيث يتم تصويره كمهمة التعرف على الأنماط في تسلسلات الحمض النووي. يحتوي النموذج على مجموعة من المعلمات المعروضة كأزرار. في حالة الشبكات العصبية، تسمى المعلمات الأوزان، وعادةً ما تكون مبدئيًا قيمًا عشوائية صغيرة. هنا، تُظهر الأنماط المميزة مواقع ارتباط عامل نسخ الجين (Myc)، وتُمثل التصنيفات التدريبية احتمالات الارتباط المقاسة تجريبيًا وفقًا لفحص (ChIP-seq)، على سبيل المثال.
(b) يتم ضبط الأوزان بواسطة خوارزمية التعلم لتقليل الاختلاف بين توقعات النموذج والتصنيف التدريبي، ويتم قياس ذلك، ويُعرف بخطأ أو فقدان التدريب.
(c) يمكن استخدام الميوتاجينيز الحاسوبي (Mutagenesis) للتنبؤ بما إذا كانت الطفرة ستؤثر على ارتباط (Myc) بالحمض النووي.
كيف يؤثر الذكاء الاصطناعي على التكنولوجيا الحيوية؟
يُحدث الذكاء الاصطناعي ثورة في مجال التكنولوجيا الحيوية ويمكّن العلماء والباحثين من تحقيق اختراقات ملحوظة. فيما يلي بعض الأمثلة الملموسة لكيفية تأثير الذكاء الاصطناعي على التكنولوجيا الحيوية:
1) الهندسة الوراثية:
تعتبر العلاقة بين النمط الجيني والنمط الظاهري تحديًا أساسيًا. لقد نجحت دراسات الارتباط على مستوى الجينوم (GWAS) في إنشاء ارتباطات بين التباين الجيني والنمط الظاهري لكن هناك الكثير من القيود. يوفر التعلم الآلي، وخاصة التعلم المشرف العميق، إمكانات هائلة في مواجهة هذه التحديات. من خلال استخدام التمثيلات الجزيئية العصبية، حيث يمكن أن يقلل التعلم الآلي من التكلفة والوقت اللازمين لتحديد الجزيئات الواعدة، ويزيد من دقة تحديد المركبات الجديدة هيكليًا ذات النشاط الحيوي المطلوب، ويوفر رؤى ميكانيكية حول التأثيرات المتغيرة على العمليات الجزيئية. تم تطبيق نماذج التعلم العميق للتنبؤ بالأنماط الظاهرية الجزيئية، مثل ارتباط عامل النسخ، وأنماط التضفير، ومثيله الحمض النووي، مما يتيح فهمًا أعمق للتأثيرات الوظيفية للمتغيرات الجينية (شكل 4). يعد دمج التعلم العميق مع بيانات (GMOs) والمعرفة البيولوجية واعدًا؛ لتوضيح التفاعلات الجينية المعقدة والشبكات التنظيمية. يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل مجموعات البيانات الجينومية الواسعة؛ لتحديد العلامات الجينية المرتبطة بالسمات المرغوبة، مثل مقاومة الأمراض، أو زيادة غلة المحاصيل. تمكن هذه المعرفة العلماء من هندسة النباتات والحيوانات ذات السمات المحددة، مما يؤدي إلى تطوير الكائنات المعدلة وراثيًا (GMOs) التي تقدم فوائد عديدة في الزراعة والطب والصناعة.

شكل 5: الذكاء الاصطناعي الطبي العام (GMAI)
شكل 5: يتم تدريب نموذج (GMAI) على عدة أنماط للبيانات الطبية، باستخدام تقنيات مثل التعلم ذاتي الإشراف. لتمكين التفاعلات المرنة، يمكن توصيل أنماط البيانات مثل الصور أو بيانات السجلات الطبية الإلكترونية مع اللغة، سواء عبر النصوص أو بيانات الكلام. بعد ذلك، يحتاج نموذج (GMAI) إلى الوصول إلى مصادر مختلفة للمعرفة الطبية لأداء مهام التفكير الطبي، مما يفتح الباب أمام إمكانيات هائلة يمكن استخدامها في التطبيقات الفرعية. يقوم النموذج (GMAI) الناتج بعد ذلك بتنفيذ المهام التي يمكن للمستخدم تحديدها في الوقت الفعلي. يمكن لهذا النموذج استرجاع معلومات سياقية من مصادر مثل الرسوم البيانية للمعرفة أو قواعد البيانات، مستغلاً المعرفة الطبية الرسمية للتفكير في المهام التي لم تتم رؤيتها من قبل. كما يوفر نموذج (GMAI) الأساس للعديد من التطبيقات في مجالات سريرية مختلفة، وكل منها يتطلب التحقق الدقيق والتقييم التنظيمي.
3) اكتشاف الأدوية:
يعمل الذكاء الاصطناعي على تسريع عملية اكتشاف الأدوية، من خلال تحليل كميات هائلة من البيانات البيولوجية، والتنبؤ بفعالية الأدوية المرشحة المحتملة. على سبيل المثال، يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تحليل البيانات الجينية والبروتينية، لتحديد أهداف الأدوية الجديدة، وتصميم جزيئات الأدوية، والتنبؤ بتفاعلاتها مع جسم الإنسان. يسرع هذا النهج في تحديد الأدوية المرشحة الواعدة، ويقلل بشكل كبير من الوقت والتكلفة المتضمنة في عملية الاكتشاف. على سبيل المثال، قام باحثون بتسريع اكتشاف المضادات الحيوية من خلال التعلم الآلي، وذلك بتضييق مساحة البحث عن الجزيئات الكيميائية من 100 مليون جزيء إلى 10 آلاف جزيء مرتبة حسب أكثر الجزيئات الواعدة. في الواقع، يقدم النموذج المطور باستخدام التعلم الآلي إمكانيات واعدة، بما في ذلك تقليل النفقات المرتبطة بتحديد الجزيئات الواعدة المحتملة، من خلال التركيز على جمع بيانات التدريب ذات الصلة. بالإضافة إلى ذلك، لديه القدرة على تحسين دقة تحديد المركبات الفريدة ذات النشاط الحيوي المطلوب، وتسريع العملية بشكل كبير من اكتشاف هذه المركبات المثالية من شهور أو سنوات إلى أسابيع فقط، وبالتالي توفير الوقت والجهد.
4) الزراعة الدقيقة:
يعمل الذكاء الاصطناعي على تغيير الزراعة من خلال تمكين تقنيات الزراعة الدقيقة. وبالاستفادة من تحليل صور الأقمار الصناعية، وبيانات المناخ، ومعلومات التربة، يمكن لخوارزميات الذكاء الاصطناعي تحسين استراتيجيات إدارة المحاصيل. يمكن للأنظمة التي تعمل بالذكاء الاصطناعي تحديد الكمية المُثلى من المياه والأسمدة ومبيدات الآفات اللازمة لمناطق معينة، مما يؤدي إلى زيادة غلة المحاصيل، وتقليل إهدار الموارد وتحسين الاستدامة. في مراجعه حديثة، أشار باحثون إلى الفوائد والمخاطر المحتملة لتطبيق تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI) في الزراعة العالمية. في حين أن الذكاء الاصطناعي لديه القدرة على تحسين إدارة المحاصيل، وتشخيص الأمراض، وزيادة الإنتاجية، فإن آثاره على المزارع والمزارعين والأمن الغذائي ليست مفهومة جيدًا. تحدد المراجعة عوامل الخطر النظامية بما في ذلك قابلية التشغيل البيني للبيانات، والعواقب الاجتماعية والبيئية لنماذج التعلم الآلي المحسّنة للإنتاجية، ومخاوف السلامة والأمن. للتخفيف من هذه المخاطر، يقترح الباحثون إشراك علماء الأنثروبولوجيا وعلماء البيئة في تصميم التكنولوجيا، وتطبيق أطر الابتكار المسؤولة التي تركز على الإنسان، وإنشاء تعاونيات بيانات من أجل الشفافية والملكية، وإجراء عمليات النشر الأولية للذكاء الاصطناعي الزراعي في البيئات الخاضعة للرقابة. ولا بد من التأكيد على نهج متعدد التخصصات لضمان التكامل الآمن والمستدام للذكاء الاصطناعي في الزراعة.
من خلال الاستفادة من قوة الذكاء الاصطناعي، يفتح العلماء إمكانيات جديدة في التكنولوجيا الحيوية، مما يؤدي إلى التطورات التي تؤثر بشكل إيجابي على مختلف القطاعات، بما في ذلك الطب والزراعة والحفاظ على البيئة. تتيح الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي اكتشاف الأدوية بشكل أسرع وأكثر دقة، وتحسين الممارسات الزراعية، وتسريع الهندسة الوراثية، وتحسين تشخيص الأمراض وعلاجها، وإحداث ثورة في المعلوماتية الحيوية. تدفع هذه الابتكارات مجال التكنولوجيا الحيوية إلى الأمام، وتشكل مستقبلًا يعمل فيه العلم والذكاء الاصطناعي جنبًا إلى جنب لمواجهة التحديات المعقدة وتحسين نوعية حياتنا.

شكل6: نموذج يوضح تسريع اكتشاف المضادات الحيوية من خلال الذكاء الاصطناعي
شكل 6: تسريع اكتشاف المضادات الحيوية من خلال الذكاء الاصطناعي وتحديدا التعلم الآلي. يُحدث نموذج الشبكة العصبية العميقة ثورة في العملية من خلال استكشاف مساحات كيميائية شاسعة في السيليكو (الطب الحاسوبي) بكفاءة. يتم تدريب هذا النموذج على مجموعة متنوعة من 2335 جزيء تمنع نمو الإشريكية القولونية (E.coli)، ويستخدم النموذج نهج تمرير الرسائل الموجهة (directed passing message) لبناء الجزيئات التمثيلات. يتم تطبيق النموذج على أكثر من 107 مليون جزيء، وترتيبها بناءً على النتائج المتوقعة لتحديد المركبات الواعدة ضد الإشريكية القولونية. نهج فعّال من حيث التكلفة، وسريع يحدث ثورة في أبحاث المضادات الحيوية.

ما هي تحديات استخدام الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا الحيوية؟
هناك العديد من تحديات استخدام أدوات الذكاء الاصطناعي التي تنطبق على معظم المجالات. نلخص أهم تلك التحديات التي لها علاقة بالتكنولوجيا الحيوية:
1) توافر البيانات:
تتطلب خوارزميات التعلم العميق كميات كبيرة من البيانات للتدريب، ولكن الحصول على مثل هذه البيانات في التكنولوجيا الحيوية قد يكون أمرًا صعبًا. على سبيل المثال، يعتمد اكتشاف الأدوية المدعوم بالذكاء الاصطناعي على مجموعات بيانات متنوعة تشمل بيانات الجينوم والنسخ وبيانات البروتينات. ومع ذلك، فإن مجموعات البيانات هذه غالبًا ما تكون باهظة الثمن وتستغرق وقتًا طويلاً لجمعها. يمكن أن يؤدي التوافر المحدود للبيانات عالية الجودة إلى إعاقة تطوير وتطبيق الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا الحيوية. لذلك، يقوم الباحثون بتطوير خوارزميات متطورة للتعامل مع محدودية وفره تلك البيانات بدون التأثير على دقة النموذج، وذلك باستخدام تقنيات كالتعلم الذاتي، أو التعلم المشرف الجزئي.
2) إمكانية تفسير النموذج:
يعد فهم كيفية اتخاذ نماذج التعلم العميقة للقرارات أمرًا بالغ الأهمية للثقة والاعتماد. ومع ذلك، قد يكون تفسير هذه النماذج معقدًا. على سبيل المثال، في دراسة عن تصنيف السرطان باستخدام التعلم العميق، وجد الباحثون أن النماذج قدمت تنبؤات دقيقة، لكن عملية صنع القرار ظلت إلى حد كبير كالصندوق الأسود (Arasu)، حيث إن الافتقار إلى قابلية التفسير تجعل من الصعب تقييم موثوقية وسلامة أنظمة الذكاء الاصطناعي في البيئات السريرية. مؤخرًا، اهتم الباحثون في تطوير أدوات إضافية لتفسير هذا الصندوق الأسود، حيث إن (Attention mechanism) لديها القدرة على تركيز انتباهها على مواقع مختلفة في الصورة حسب الأهمية.
3) التحيّز:
يمكن لنماذج التعلم العميق أن ترث التحيزات الموجودة في بيانات التدريب، مما يؤدي إلى احتمال علاج غير عادل للمرضى. في دراسة لتحليل التحيز العنصري في خوارزمية مستخدمة على نطاق واسع لتقدير المخاطر الصحية، وجد الباحثون أن الخوارزمية خصصت درجات مخاطر أعلى بشكل غير متناسب للمرضى السود مقارنة بالمرضى البيض، مما يبرز تأثير التحيز في أنظمة الذكاء الاصطناعي. تعتبر معالجة التحيز أمرًا بالغ الأهمية لضمان نتائج رعاية صحية عادلة. ولكن يبقى التساؤل هل هناك تحيز مقبول؟

4) الدقة:
يجب أن تثبت أنظمة الذكاء الاصطناعي الدقة العالية حتى تكون موثوقة وفعّالة. في سياق التشخيص الطبي، وجدت دراسة قارنت أداء نماذج التعلم العميق مع أخصائيي الأشعة في الكشف عن سرطان الثدي، حققت النماذج مستويات دقة متماثلة، لذلك فالحفاظ على دقة عالية أمر بالغ الأهمية، لأن التشخيص الخاطئ أو التنبؤات غير الصحيحة يمكن أن يكون لها عواقبًا وخيمة على صحة المريض ونتائج العلاج.
5) الخصوصية:
تشكل الخصوصية والأمن تحديات كبيرة في تطبيق الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا الحيوية. نظرًا لأن أنظمة الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا الحيوية تعتمد على كميات هائلة من البيانات الشخصية والحساسة مثل الجينوم، فإن ضمان خصوصية الأفراد يصبح أمرًا بالغ الأهمية. لذلك، يثير جمع وتخزين وتحليل بيانات الجينوم والصحة والمرضى مخاوف بشأن الوصول غير المصرح به والاختراقات وإساءة الاستخدام المحتملة. بالإضافة إلى ذلك، يتطلب دمج تقنيات الذكاء الاصطناعي في إعدادات الرعاية الصحية تدابير أمنية قوية للحماية من التهديدات السيبرانية وحماية سرية المرضى. لذلك فإن تحقيق التوازن بين الاستفادة من البيانات للتقدم، مع احترام حقوق الخصوصية، وتنفيذ بروتوكولات الأمان الصارمة أمرًا ضروريًا لمواجهة هذه التحديات وبناء الثقة في استخدام الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا الحيوية. في المستقبل القريب، يستعد التعلم الفيدرالي لإحداث ثورة في الذكاء الاصطناعي في الرعاية الصحية، من خلال تمكين التدريب التعاوني للنماذج عبر مؤسسات متعددة مع الحفاظ على خصوصية البيانات. ففي دراسة حديثة، قام باحثون من خلال التعلم الفيدرالي بتدريب نماذج الذكاء الاصطناعي مباشرة على مصادر البيانات الموزعة (صور أشعة رنين مغناطيسي للدماغ)، لتجنب الحاجة إلى مركزية معلومات المريض الحساسة، وقاموا بفحص الخوارزمية على أكثر من 500 صورة أشعة رنين مغناطيسي للدماغ، للكشف عن أي أورام بشكل دقيق وأوتوماتيكي يحفظ خصوصيه المرضى. يضمن هذا النهج الخصوصية والأمان مع تسخير المعرفة الجماعية المضمنة في مجموعات البيانات المتنوعة، مما يؤدي في النهاية إلى أنظمة ذكاء اصطناعي أكثر دقة وقوة لتحسين نتائج الرعاية الصحية.
كيف يمكننا ضمان مصداقية الذكاء الاصطناعي في التكنولوجيا الحيوية؟
بالإضافة إلى التحديات المذكورة سابقًا، فإن ضمان الذكاء الاصطناعي الجدير بالثقة في التكنولوجيا الحيوية يتطلب معالجة الجوانب الرئيسة. وهذا يشمل ضمان الدقة وعدم التحيز، من خلال استخدام مجموعات بيانات كبيرة ومتنوعة للتدريب، وتنفيذ تقنيات لاكتشاف وتصحيح التحيز في أنظمة الذكاء الاصطناعي. الشفافية وإمكانية الشرح أمران حاسمان، مما يمكّن المستخدمين من فهم كيفية عمل أنظمة الذكاء الاصطناعي، واتخاذ القرارات المناسبة في الوقت المناسب. يجب تطوير المبادئ التوجيهية الأخلاقية لمعالجة مخاوف الخصوصية، والتمييز، والملكية الفكرية. علاوة على ذلك، فإن تعزيز الاستخدام المسؤول للذكاء الاصطناعي ينطوي على زيادة الوعي بالمخاطر والفوائد المحتملة، وتشجيع الممارسات الأخلاقية والمسؤولة. من خلال دمج هذه المبادئ، يمكننا تعزيز الثقة في أنظمة الذكاء الاصطناعي ونشرها المسؤول في التكنولوجيا الحيوية.

