في ضوء القمر

أ.د. أحمد باشا- فيزياء – جامعة القاهرة

صدر هذا الكتاب بمناسبة احتفال اليونسكو في العام الدولي للضوء وتقنياته 2015 بمرور ألف سنة على تأليف الحسن بن الهيثم لكتابه ((المناظر))، الذي أسس به علم ((البصريّات الهندسيّة والفيزيائيّة))، وأفاد منه كل من جاء بعده من العلماء والباحثين في هذا المجال. وفي ترجمته للحسن بن الهيثم ذكر أحد المحققين (أحمد فؤاد باشا) في المقدمة أنه وُلد في بالبصرة في نحو عام 354/ 965م، استنادًا إلى كلام ابن أبى أصيبعة في ((عيون الأنباء في طبقات الأطباء)) (تحقيق ودراسة: د. عامر النجار، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 2000): ((…ونقلت من خط ابن الهيثم في مقالة له فيما صنعه من علوم الأوائل إلى آخر سنة سبع عشرة وأربعمائة لهجرة النبي – صلى الله عليه وسلم – الواقع في شهور سنة ثلاث وستين الهلاليّة من عمره، ما هذا نصّه)). أما وفاته، فيقول يوسف القفتى في كتابه ((إخبار العلماء بأخبار الحكماء)) (دار الآثار، بيروت، بدون تاريخ للنشر) إنها في حدود عام 430/ 1039م، في القاهرة، ثم يزيد القفطي بعد ذلك: «ورأيت بخطه جزءًا في الهندسة كتبه في سنة 432/(1040-1041م)، وهو عندي لله المنّة)).

وهذا يجعلنا نرجح أكثر أن وفاة ابن الهيثم وقعت بُعيد هذا التاريخ؛ أي نحو سنة 433/ 1042م، وهو ما نرتاح إليه، وسجلناه على غلاف هذا الكتاب. وفي ما يتعلق بنسبة ((مقالة فى ضوء القمر)) لأبي علي الحسن بن الحسن بن الهيثم، فإن هذا هو الاسم الأرجح، لوروده في كثير من كتب ومقالات ورسائل ابن الهيثم نفسه، فجملة ما ذكره ابن الهيثم بنفسه من مؤلفاته، طبقًا لما نقله عنه ابن أبي أصيبعة (ت 668)، حتى عام 419ه/1029م، بلغ اثنين وتسعين عملًا. ويضيف ابن أبي أصيبعة، نقلًا عن ابن الهيثم: ((وذلك سوى رسائل ومصنفات عدة حصلت لي في أيدي جماعة من الناس بالبصرة والأهواز، ضاعت دساتيرها، وقطع الشغل بأمور الدنيا وعوارض الأسفار عن نسخها. وكثيرًا ما يعرض ذلك للعلماء. وإن أطال الله لي في مدة الحياة، وفسح في العمر، شرحتُ وصنفتُ ولخصتُ من العلوم أشياء كثيرة تتردد في نفسي، ويحثني على إخراجها فكري، والله يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريده، وبيده مقاليد كل شيء، وهو المبدئ والمعيد)). مما يعني أن يكون بعض النسَّاخ حوّروا اسم الحسن بن الحسن بن الهيثم، خطًأ أوُ عمْدًا، إلى الحسن بن الحسين، أو إلى الحسين بن الحسن، أي بزيادة حرف الياء على اسمه أو اسم أبيه. وذكرت بعض المصادر، مثل: كتاب ((عيون الأنباء في طبقات الأطباء)) لابن أبي أصيبعة، أن اسمه هو أبوعلي محمد بن الحسن، وهو خطأ؛ لأن محمدًا لا يكنى بأبي علي، بل يكنى بذلك من كان اسمه ((الحسن))، لكن الدكتور رشدي راشد- أطال الله عمره- في تقديمه للطبعة الجديدة من كتاب ((الحسن بن الهيثم: بحوثه وكشوفه البصرية))للأستاذ مصطفى نظيف، رجّح أن يكون الحسن بن الحسن بن الهيثم ومحمد بن الحسن بن الهيثم شخصين مختلفين، وليسا شخصًا واحدًا، إلا أن دلائله على ذلك لا تبدو كافية للاقتناع، والأمر بحاجة إلى المزيد من الدراسة والتحقيق. 

ولم نجد أحدًا ممن ترجموا لابن الهيثم عرض لنشأته الأولى بالبصرة، والظاهر من اسمه أنه من أصل عربي؛ واسم جده الأعلى((الهيثم)) ليس من الأسماء التي تداولها الأعاجم في الإسلام. والهيثم هو فرخ النسر. وإذا كان ابن الهيثم بصريّ المولد، فقد انتقل إلى مصر، وأقام بها إلى آخر عمره، ولا غرو أن يلقبه صاعد الأندلسي في كتابه ((طبقات الأمم)) بابن الهيثم المصري.

وقد علمت مؤخرًا، بالاتصال الشخصي، من الأستاذ الفاضل الدكتور محمد حمزة الحداد، أستاذ الآثار والحضارة الإسلامية وعميد كلية الآثار جامعة القاهرة (2015) أنه تعرّف مما ورد في كتب المزارات على قبر الحسن بن الهيثم في حوش حديث بالقرافة الصغرى بجوار قبر الصحابي الجليل عقبة بن عامر، جنوبي قبة الإمام الشافعي بمصر القديمة، راجع في ذلك:

  • ((الكواكب السيارة في ترتيب الزيارة في القرافتين الكبرى والصغرى)) لابن الزيات (ت 814)، دار الكتب المصرية، القاهرة 1907.
  • ((تحفة الأحباب وبغية الطلاب في الخطط والمزارات والتراجم والبقاع المباركات)) لأبي الحسن علي بن نور الدين السخاوي الحنفي (ت 902)، نشر: حسن قاسم ومحمود ربيع، القاهرة 1936؛ والطبعة الثانية، مكتبة الكليات الأزهريّة، القاهرة، 1986.

وقد رأيت أن أسجل هذه المعلومة المهمّة، عسى أن تكون دافعًا وحافزًا للمعنيين بقضايا الآثار والسياحة والتعليم والثقافة وتحقيق التراث على أن ينفضوا الغبار عن قبر الحسن بن الهيثم، الذي ظلّ مجهولًا طوال ما يقرب من ألف عام حتى كاد يطويه النسيان، ويردد بعضهم قول الشاعر: 

رُبَّ لحدٍ قد صار لحدًا مرارا                           ضاحك من تزاحم الأضداد.

مكانة ابن الهيثم في تاريخ العلم والحضارة

عندما أطلق اسم ابن الهيثم على فوهة تقع في الجانب الشرقي المرئي للقمر من الأرض، عند خط عرض º15.9 شمالاً وخط طول º71.9 شرقًا، في حين أطلق اسم ألبرت أينشتين على فوهة أخرى تقع في الجانب الغربي عند خط عرض º16.3 شمالاً وخط طول º88.7 غربًا، كان في هذا إشارة ذكيّة إلى الموطن الأصلي لأشهر عالمين في الشرق والغرب. وإذا راجعنا تاريخ العلم في الألفية الثانية، وعقدنا مقارنة بين الثورة العلمية لنموذج ابن الهيثم في وضع الأساس التجريبي للفيزياء في أوائل القرن الحادي عشر الميلادي، وبين نموذج أينشتين الذي أسهم في تأسيس الفيزياء الحديثة مع بدايات القرن العشرين، فإننا نجد أن ((معجزة الضوء)) كانت الموضوع المحوري لأبحاث كل من العالمين. وفي عام 2006 ظهر كتاب بعنوان ((ابن الهيثم العالم الأول)) من تأليف برادلي ستيفنز (Bradley Steffens)، وفيه يترجم لابن الهيثم بوصفه أول عالم وفيلسوف علم حقيقي في تاريخ الحضارة الإنسانية، لأنه أسس وطبق المنهج التجريبي الاستقرائي الذي يُعوَّل عليه في الاستدلال على الحقائق العلميّة، واستخلاص أي نتائج مرجعيّة.

وقد عُرف الحسن بن الهيثم في الغرب، منذ العصور الوسطى، باسم ((الهازن)) (Al Hazen) – تحريف ((الحسن)) – بفضل أعماله في الرياضيات والفلك والأرصاد والبصريات والإلهيات والهندسة، وقد سبق أن نشرنا دراسة تحليليّة وافية عن حياته ومآثره العلميّة، مع قائمة بمؤلفاته ومكان الموجود منها، في المرجعين التاليين:

  1. الحسن بن الهيثم ومآثره العلميّة، د. أحمد فؤاد باشا، كتاب المجلة العربيّة، المملكة العربيّة السعوديّة الرياض 1436/ 2014م.
  2. رسائل المكان والضوء وأضواء الكواكب، تأليف: الحسن بن الهيثم، تحقيق ودراسة: د. أحمد فؤاد باشا، سلسلة ((تراثنا العلمي)) (2)، دار الكتب والوثائق القوميّة، القاهرة، 1435/ 2014م. 

تحقيق “مقالة في ضوء القمر”:

وردت هذه المقالة في ((فهرست)) ابن أبي أصيبعة، وفي ثبت ابن القفطي ضمن قائمة مؤلفاته في الفلك والأرصاد. والمخطوطة المعروفة لهذه المقالة موجودة بمكتبة إنديا أوفيس (India Office) بلندن تحت رقم 734 فرعية 9 وفرعية 15. وقد اعتمدنا في تحقيق المقالة على نسخة مطبوعة في الهند في حيدر آباد الدكن سنة 1357 ضمن مجموعة رسائل لابن الهيثم، وعلى صورة المخطوطة المحفوظة في مكتبة لندن التي أفادتنا في استكمال الصفحات الناقصة في آخر النسخة المطبوعة، كذلك استخدم برنامج الرسم الهندسي ((الأوتوكاد)) لضبط رسم جميع الأشكال الهندسيّة وتصويبها لكي توافق النصّ الأصلي للمقالة بأكبر قدر ممكن من الدقة. ومن الجدير بالذكر أن الطبيب الشهير في مدينة القاهرة ((ابن رضوان)) المعاصر لابن الهيثم كان قد نسخ هذه المقالة، وهذه النسخة أنُهيتْ في يوم الجمعة من منتصف شعبان 422 الموافق 7 أغسطس 1031م، مما يعني أن الأوساط الثقافية المصرية في ذلك الزمن كانت متابعة لمؤلفات ابن الهيثم. وقد حرص المحققان على تذييل الكتاب بملخص باللغة الانجليزيّة تعميمًا للفائدة.

محتويات ((مقالة في ضوء القمر)):

ينطلق ابن الهيثم في دراسته لضوء القمر، ماهيته وأشكاله وأعراضه، مُفندًا أقوال السابقين (أي نظرياتهم) فيقول: (( إن جِرْمَ القمر في تغير أحواله، واختلاف أشكال ما يظهر مضيئًا من سطحه، وتنقُّل الضوء في جميع جهاته، مباين لجميع الأجرام المضيئة السمائيّة. ولذلك اعتقد المحصلون من أهل النظر أن جرمه غير مضيء (بذاته)، وأن الضوء الذي يظهر إنما هو ضوء يكتسبه من الشمس. وذلك أنهم وجدوا كل جزء من سطحه يحيط به أبدًا عند نهاية السطح الظاهر من جِرمه قوس من دائرة تكون حُدْبتها تلى جهة الشمس، ويكون أعرض موضع منه مساويًا لنفس جِرم الشمس …ووجدوه إذا كان ممتلئًا (أي بْدرًا)، وقد شمل النور جميع سطحه الظاهر، يكون سطحهُ النيِّر المنعكس مقابلًا لجرم الشمس، ويكون مائلاً عن حقيقة المقابلة (أي ليس في خط واحد مع الشمس والأرض). ووجدوه وقت كسوفه يكون أبدًا في مقابلة الشمس، ويكون في حقيقة المقابلة (أي في خط واحد مع الشمس والأرض)، ويكون جِرم الأرض متوسطًا بينه وبين جِرم الشمس)). وعلى الرغم من إجماع السابقين على أن ضوء القمر إنما هو مستفاد من الشمس، وأن سطحه المضئ هو الذي يكون مقابلًا لجِرْم الشمس، وأن الأرض إذا سترت عنه ضوء الشمس في وقت كسوفه عاد إلى جوهره (أي طبيعته المعتمة)، إلا أن ابن الهيثم لم يجدْ لأحد منهم (( قولاً برهانيًا)) (أي نظريّة علميّة) تدلّ على أن ذلك واجب ضرورة؛ إما لأنه لم يتكلّف أحد لذلك برهانًا، أو لعله من العلل، أو كان عندهم براهين لم تصلنا. ويجد العالم الفيلسوف مبررًا للاستدراك على السابقين بقوله: ((وما لم يقم البرهان على أن ذلك واجب، وأنه ليس يحتمل وجهًا غير ذلك الوجه، كان رأيهم ذلك إمكانيا (احتماليًا)، لا واجبًا ضروريًا، وكان مظنونًا لا متيقنًا)). من ناحية أخرى، لم يجد ابن الهيثم من المتقدّمين من لخص القول في كيفية ضوء هذا الجِرم بعد قبوله ذلك الضوء من الشمس، ولم يُحفظ لأحد منهم كلام محقق في هذا المعنى، لا في قوله الضوء، ولا في انعكاس الضوء عنه. وبهذا يصل ابن الهيثم إلى تحديد ((إشكاليّة البحث)) بقوله: ((ولما كان ذلك كذلك، ولم نجد كلامًا شافيّا يفصح عن حقيقة كيفيّة ضوء هذا الجِرم، وكانت النفوس تتوق إلى الوقوف على ماهيات الأمور الموجودة، ولا تسكن إلا عند اليقين الذي تسقط معه الظنون، دعتنا هذه الحال إلى البحث عن كيفيّة ضوء هذا الجِرم، واستقصاء النظر فيه، وكشف ما هو ملتبس من أمره، فجعلنا ابتداء نظرنا تفقد (أي استقراء) أعراض جميع الأجرام المضيئة، واعتبار (أي ملاحظة واختبار) أحوالها))

ويواصل فيلسوف العلم العربي شرح خطوات منهجه التجريبي الاستقرائي في البحث العلمي بقوله: ((فلما تصفّحنا (أي استقرأنا) كيفيّة الأجرام المضيئة (أي جميع النيرات من كواكب ونجوم وشمس وقمر)، وميزنا خواصّها، وجدنا كل جسم يشرق منه ضوء على جسم آخر إنما يكون على أحد وجوه ثلاثة: إما أن يشرق من كل نقطة منه على كل نقطة تقابلها (على جسم آخر)؛ وهذه خواص الأجسام المضيئة من ذواتها. وإما أن يشرق الضوء عنها بالانعكاس، وهو أن يشرق عليها ضوء من أجسام أخرى مضيئة، ثم ينعكس عنها إلى كل نقطة يصّح أن ينعكس إليها ضوءُ من ذلك الجسم؛ وهذه خواص الأجسام الصقيلة. وإما أن يشرق الضوء عنها بالنفوذ، وهو أن يشرق عليها ضوءٌ من أجسام أُخر مضيئة، وينفذ فيها إلى كل نقطة يصحَّ أن يُنفذ إليها ضوء من ذلك الجسم؛ وهذه خواص الأجسام المشفّة (التي تسمح كثافتها الضوئيّة (Optical density) بنفاذ الضوء خلالها حسب درجة شفيفها). فلما تميَّزت لنا خواص جميع الأجسام المضيئة، ميزنا خواص ضوء القمر، فوجدنا كل نقطة على سطحه المضئ يشرق منها ضوء على كل نقطة تقابلها (على الأرض))).ويصمم ابن الهيثم تجربة لاعتبار هذا المعنى، أي اختباره والتأكد من صحته بالبرهان التجريبي، باستخدام آلة على شكل ((ذات الشعبتين)) التي ذكرها بطليموس لرصد ارتفاع القمر، وجاء وصفها في كتاب ((تحرير المجسطي)) لنصير الدين الطوسي (ص 53 من مخطوط دار الكتب والوثائق القوميّة بالقاهرة)، ويصل إلى نتيجة مهمّة عبَّر عنها بقوله: ((ثَبُت من بعد البرهان أن جِرْمَ القمر إذا أشرقت عليه الشمس صار في تلك الحال مضيئًا من ذاته، وصار الضوء الذي يخرج منه وينبسط على الأرض هو ضوء جرمه في ذلك الوقت، وصار اللون النيِّر الذي يرى له إنما هو لون جِرْمَه في تلك الحال… …إن ضوء القمر المشرق على الأرض ليس هو ضوء الشمس ينعكس على سطحه إلى الأرض)). وبهذا يقدّم ابن الهيثم نظريّة غير مسبوقة ولا ملحوقة يصف فيها كيفيّة ضوء القمر وتغيّر أشكاله بعد قبوله ذلك الضوء من الشمس، ويزيد التجربة إيضاحًا برسوم هندسيّة للضوء الذي يخرج من الشمس إلى القمر، ومن القمر إلى الأرض، في جميع حالاته. ويعمم نظريته على الأجرام السماويّة جميعها بافتراض ما أسماه بالأضواء الأوليّة والأضواء الثواني (أي الثانوية)، ولا شك أن هذه النظريّة تحظى بأهميّة تاريخيّة ومعرفيّة في مجال الفيزياء الفلكيّة.

عبقريّة التأليف العلمي بالعربية

يعدُّ الحسن بن الهيثم رائدًا في التأليف بلغة عربية علميّة ذات خصائص مميّزة من أسلوب، ومصطلحات، ورموز، ورسوم توضيحيّة، وغيرها. وقد عرض رسالته ((مقالة في ضوء القمر)) بلغة عربية فصيحة، سهلة الألفاظ، ومحددة المصطلحات، وواضحة المعاني والدلالات، الأمر الذي جعل من أسلوبه اللغوي، ومنهجه العلمي في وضع المصطلحات واستعمالها وإشاعتها، أنموذجًا راقيًا للمستوى الرفيع الذي وصل إليه الـتأليف العلمي والتقنى باللغة العربية في عصر الازدهار الإسلامي.

فهو عندما يستخدم- مثلا- تعبير ((نِفوذ الضوء في الأجسام المشفة))، يتكئ في ذلك على المعنى اللغوي في الاشتقاق: قد شفّ عليه ثوبه يشف شُفوفا وشفيفا، أي رقَّ حتى يُري ما خلفه، وشفّ الشيء: لم يحجب ما وراءه. يقول ابن الهيثم في كتابه ((المناظر)) : ((إن الهواء جسم مشفُّ شديد الشفيف، إلا أنه ليس في غاية الشفيف، بل فيه غِلظ يسير)). ونلاحظ أن جميع المصطلحات العلميّة التي استخدمها ابن الهيثم في ((مقالة في ضوء القمر)) اشتقاقيّة، أو مجازيّة، أو تراكيب ومتلازمات تعبير، دون أن يلجأ إلى التعريب.

ويحرص ابن الهيثم في أسلوبه العلمي السهل الممتنع على أن يجذب انتباه القراء والمتعلمين بحِرَفيَّة المعلم الماهر، ونلحظ من خلال ذلك دقة بناء التراكيب وهندستها، واستمرارها طولًا حتى يتم المعنى المراد منها، شأن كل معلم يستطرد في شرح أفكاره، وكثيرًا ما يستخدم التراكيب السالبة أولًا، ثم يأتي بالتركيب الذي يدلّ على المفهوم الموجب، كأنه أستاذ معلم يريد لتلاميذه وقرائه أن يهتدوا إلى المراد بأنفسهم. 

وكمثال لهندسة تركيب الفكرة وتفكيكها عند ابن الهيثم، حيث تلد الجملة الجملة، وتترتب عليها، نجد روعة أدائه اللغوي في النص الآتي المقتبس من رسالة ((مقالة في ضوء القمر)): ((وإذ قد ثبتت هذه المعاني فلنشرع الآن في البحث عن كيفية إشراق ضوء هذا الجِرم (أي القمر) على الأرض، ولنرتب أولًا الطريق التي بها تُعتبر خاصته التي بها يستدل على كيفية إشراقه، فنقول: إنه قد تبين عند أصحاب التعاليم (أي العلوم الرياضياتية) أن كل ضوء يشرق من جسم مضىء على جسم مشفّ فإنه يمتدّ في الجسم المشفّ عن سموت خطوط مستقيمة، ما لم يصادف جسمًا مخالف القوام للجسم المشف الذي هو فيه، فإذا صادف جسمًا آخر مشفّا مخالف الشفيف للجسم الأول، فإنه ينعطف انعطافًا مخصوصًا عند الفصل المشترك بين الجسمين المشفّين (أي السطح البيني الفاصل بين وسطين مختلفين في درجة الشفيف)، ويمتدّ أيضًا على خطوط مستقيمة (وهذا هو نصّ القانون الأول لانعطاف الضوء المنسوب إلى إسحاق نيوتن). وإن كل ضوء ينعكس عن جسم صقيل، فإنه ينعكس على زوايا متساوية، تكون بين الخطوط التي تخرج عليها الأضواء، وبين العمود الخارج من نقطة الانعكاس على السطح المستوى المماس للسطح الذي يقع عنه الانعكاس (وهذا هو نصّ القانون الأول لانعطاف (انكسار) الضوء))).

ويتكرّر مثل هذا الأسلوب الرائع الذي يميّز لغة ابن الهيثم، دون أن تشغله خبرته في ((الهندسة التركيبّيّة)) للأفكار العلميّة عن دقته في أداء المعنى الذي يريده، بصرف النظر عن أن يكون ما عبّر عنه صحيحًا من الوجهة العلميّة المعاصرة، فالمهمّ أنه قال كلامًا مفهومًا لكل من يقرؤه في عصره، أو في عصرنا؛ لأنه مبني على المعلومات المتاحة له، بعيدًا من أساليب البلاغة التقليديّة في العلوم الأدبيّة. وهو، وإن كان قد استخدم أحيانًا بعض التعبيرات التي يبدو فيها ملمح المجاز، مثل: كيفيّة إشراق الجِرْم، وهو جسم صقيل، سموت خطوط مستقيمة، نقطة الانعكاس …إلخ، فإن ذلك لم يكن إلا لهدف تعليمي وتثقيفي يراد منه الفهم والإفهام. 

Share This