مخلفات التصنيع الغذائي
مصدرًا رخيصًا لمكونات قيّمة
د. ندى الدرة – سلامة وتقنية الغذاء – جامعة بيروت العربية
على مدى السنوات القليلة الماضية، هناك اهتمام متزايد في الاستفادة من مخلفات التصنيع الغذائي التي تتمثل بالمنتجات الثانوية الناتجة عن تجهيز الأغذية. وتشمل نواتج تقشير الفواكه والخضروات، البذور ،الثفل ، الدم، العظام ، والمياه المتخلفة من التصنيع الغذائي.
وفقًا لتقرير منظمة الأغذية والزراعة (FAO, 2011)، فإن ثلث المنتجات الثانوية الغذائية تهدر على الصعيد العالمي. التي تبلغ حوالي 1.3 مليار طن سنويًا. إن التخلص من مخلفات التصنيع الغذائي هذه في البيئة يهدد النظام البيئي ويسبب في إحداث ضرر كبير على البيئة وصحة الإنسان من خلال التفاعلات التلفية الناتجة عن التحلل الميكروبي، وبالتالي التخمر. هذا كله يؤكد على ضرورة معالجة وتدوير هذه المخلفات بتحويلها إلى موارد اقتصادية مهمة يمكن الاستفادة منها، مما يندرج في إطار سياسات التنمية المستدامة.
والعديد من الدراسات التي أكدت على أهمية تدوير مخلفات التصنيع الغذائي، نظرا لاعتبارها مصدرًا رخيصًا لمكونات قيّمة (مركبات نشطة حيويًا) يجب استخراجها واستخدامها كمضافات طبيعية غذائية في سلسلة الغذاء كملونات ومنكهات طبيعية أو مضادات للأكسدة طبيعية كبدائل للإضافات الصناعية التي اثبتت الدراسات خطورتها على صحة الانسان، كما وتستعمل كمكونات لمستحضرات التجميل. إن معالجة مخلفات التصنيع الغذائي تبدأ باستخراج المركبات القيمة، وأهمها الفينولية المعروفة بنشاطها المضاد للأكسدة. هناك طرق تقليدية تسمح باستخراج المركبات الفينولية باستعمال مذيب عضوي مثل الميثانول والإيثانول لزيادة محصول الاستخلاص. ولكن الاستخدام الضخم للمذيب العضوي له تأثير سلبي على صحة الإنسان والبيئة. لهذا السبب، فإن التركيز الرئيسي في الوقت الحاضر هو على استخدام تكنولوجيا صديقة للبيئة لاستخراج مادة البوليفينول، ومنها التقنيات الحديثة كالأشعة تحت الحمراء (Infrared) والموجات فوق الصوتية (Ultrasound) وتقنيات الميكروويف من أجل تعزيز محصول الاستخلاص. نُشرت العديد من الأبحاث عن الاستفادة من مخلفات تصنيع معامل عصير الفاكهة والمربيات سوف يتم عرضها فيما يلي:


الاستفادة من مخلفات تصنيع المشمس
تتمتع فاكهة المشمش بقيمة غذائية كبيرة. وهي غنية بالعديد من المركبات الفينولية التي تتركز بشكل رئيس في اللب والقشر. علاوة على ذلك، تعتبر نواة بذر المشمش، وهو ناتج ثانوي من فاكهة المشمش، مصدرًا غير تقليدي للمركبات النشطة بيولوجيا (مثل المواد الفينولية والأحماض الدهنية). يتم استخدام البوليفينول من المنتجات الثانوية للفاكهة بشكل أساس كمضافات غذائية طبيعية ومواد حافظة بسبب تأثيراتها البيولوجية المختلفة كمضادات الأكسدة، ومضادات حيوية. لذلك، تم في هذه الدراسة (D. Cheaib et al., 2018a, 2018b) تقييم ثفل (رواسب أو حثالة) المشمش الناتج عن عمليات المشمش الصناعية المهروسة والمربى والعصير عن طريق تحسين استخراج المركبات الفينولية باستخدام طريقة تقلدية، ثم مقارنتها بتقنيات استخراج جديدة كالأشعة تحت الحمراء، الموجات فوق الصوتية وتقنيات الميكروويف من أجل تعزيز محصول الاستخلاص. ثانيا، تم تقييم الأنشطة البيولوجية للمركبات الفينولية المستخرجة من منتجات المشمش (ثفل ونواة). ثالثا، تم اختبار استقرار محتوى مادة البوليفينول، فضلا عن نشاط المستخلصات الحيوي اثناء عملية التجفيف التي تم الحصول عليها من مستخلص سائل المشمش.
أظهرت المقارنة بين التقنيات المختلفة لاستخراج مادة البوليفينول من ثفل المشمش أن الأشعة تحت الحمراء كانت، إلى حد بعيد، أكثر التقنيات فعالية التي تعطي أعلى عائد بوليفينول، يليها الموجات الدقيقة والموجات فوق الصوتية والاستخراج الصلبة والسائلة. علاوة على ذلك، أعطت تقنية الأشعة تحت الحمراء أهم الأنشطة البيولوجية. وكشف المجهر الإلكتروني الماسح الضوئي أن طريقة الأشعة تحت الحمراء تسببت في أضرار خلوية وبنية أعلى في خلايا ثفل المشمش التي يمكن أن تفسر فعالية هذه الطريقة الجديدة في استخراج المركبات الفينولية. أكدت الدراسة على أن مستخلصات المشمش تتمتع بنشاط مضاد للجراثيم المقاومة. كما حافظت تقنية التجفيف على نفس جزيئات الفينول التي تم تحديدها قبل عملية التجفيف التي يمكن أن تفسر الحفاظ على الأنشطة البيولوجية للمستخلصات. إنه من الجدير بالذكر أن التجفيف يسهل استخدام المستخلص في صناعة الأغذية (كعوامل حافظة ومضادة للأكسدة) وكذلك في التطبيقات التجميلية والأدوية.


الاستفادة من مخلفات تصنيع الكرز
تتمتع فاكهة الكرز بخصائص مهمة مضادة للأكسدة، وهي غنية بالكاروتين والأنثوسيانين بالإضافة إلى المواد الفينولية، والميلاتونين، وفيتامين سي، والبروفيتامين أ وفيتامين إي. إن مخلفات تصنيع الكرز هي اللب والبذر. قام فريق بحثي (Saleh, El-Darra, and Raafat 2017) بتقييم تأثير لب وبذر الكرز الحامض الأحمر (مخلفات غذائية) كمضاد لمرض السكرى على الجرذان المصابة بداء السكري. وقد تمت التجربة على 24 من الجرذان البيضاء لمدة 8 أيام بعد إصابتها بمرض السكرى عن طريق الحقن بالألوكزان (Alloxan). أثبتت الدراسة أن لب وبذر الكرز الحامض الأحمر له تأثير إيجابي على خفض نسبة سكر الدم كما أدى إلى تعديل النقص الملحوظ في وزن الجسم، وإلى إعادة تخزين بعض مضادات الأكسدة. كما أظهرت دراسة علم الأنسجة للبنكرياس تحسن الهيكل النسيجي للبنكرياس بعد المعالجة بلب وبذر الكرز الحامض الأحمر. وهذا يؤكد أهمية تقييم مخلفات الكرز لما فيها من فوائد لخفض مستوى السكر. كما وأنه من الضروري إقامة أبحاث أكثر للتأكد من إمكانية استخدامها لصناعة الأدوية.
الاستفادة من مخلفات تصنيع البرتقال
البرتقال هو نوع من الفاكهة الحمضية منخفضة السعرات الحرارية ومغذية للغاية، كجزء من نظام غذائي صحي ومتنوع. تشتهر هذه الفاكهة الحمضية بشكل خاص بمحتواها من فيتامين سي. وتحتوي على مجموعة من المركبات النباتية الأخرى، ومضادات الأكسدة التي قد تقلل الالتهاب وتعمل ضد الأمراض وتقوي جهاز المناعة. تُهدَر سنويًّا كميات كبيرة من المنتجات الثانوية من الحمضيات التي يمكن استخدامها في استخلاص الزيوت العطرية المُستخدمة في مجالات مختلفة، مثل عوامل النكهة ومستحضرات التجميل، بالإضافة لاستخدامها كعوامل مضادة للميكروبات. قام فريق بحثي (Heydari et al. 2021) باستخدام طريقتين في استخلاص زيت البرتقال العطري، من خلال مقارنة طريقة التقطير المائي ونموذج أولي يجمع بين التقطير المائي والاستخراج بمساعدة الموجات فوق الصوتية، كما تم مقارنة الوقت والمحصول وتكوين الزيت.
أثبتت الدراسة أن النموذج الأولي أعطى عائدًا أفضل من حيث الكمية، دون التأثير على تركيب الزيت، مع أقصر وقت للاستخراج، وأوفر استهلاك للطاقة. كما أن الزيوت المستخرجة غنية بالبوليفينول، وقدمت أنشطة مضادة للأكسدة. أظهرت الدراسة أن الزيت العطري، المستخلص بالنموذج الأولي تمتع بنشاطٍ فعال كمضاد للبكتيريا أفضل من الزيت المستخلص بالتقطير المائي، مع القدرة على الحد من تكوين الأغشية الحيوية لثلاث سلالات بكتيرية مختارة منها الإشريكية القولونية والليستريا مونوسيتوجينيس والمكورات العنقودية (أمراض معوية). أخيرًا، أثبتت هذه الدراسة أن طريقة النموذج الأولي قد قللت من وقت الاستخراج، وأعطت كمية أكبر، وحسنت من استخراج الزيت العطري من قشور الحمضيات دون التأثير على تكوين الزيت عند مقارنتها بطريقة التقطير المائي. يمكن استخدام زيت البرتقال كمادة حافظة طبيعية مضادة للبكتيريا، كما يمكن استخدامها لإعطاء نكهة. أما بالنسبة للأعمال المستقبلية ، فيجب إجراء دراسات لتقييم جودة وسلامة الزيوت الأساسية التي تم الحصول عليها من استخدامها لصناعة الغذاء والتطبيقات التجميلية.
الاستفادة من مخلفات تصنيع العنب الأحمر
يحتوي العنب الأحمر على كمية مهمة من مركبات البوليفينول في القشر واللب والبذور. إن استهلاك العنب الأحمر مفيد للوقاية من الأمراض، ولا سيّما الأمراض السرطانية، وأمراض القلب. عصر العنب يولد كميات كبيرة من الثفل، الذي يعتبر ناتجًا ثانويًا غنيًا بالمواد الفينولية التي تتمتع بخصائص مهمة مضادة للأكسدة. تعتبر بذور العنب ناتجا ثانويا آخر عن عصر العنب. وقد أشارت بعض الدراسات العلمية أن بذور العنب تحتوي على مضادات للأكسدة أقوى بحوالي تسع مرات من الفيتامينين (C) و(E) والبيتاكاروتين. قام فريق بحثي (El Darra et al. 2013) بتقييم ثفل العنب الأحمر عن طريق تحسين استخراج المركبات الفينولية. وقد أثبتت الدراسة أن ثفل العنب يتضمن كميات عالية من المواد الفينولية والأنثوسيانين التي تتمتع بخصائص مضادة للأكسدة تفيد مرضى القلب والسرطان والمصابين بأمراض معدية أو نقص في المناعة. ومن المهم الإشارة الى أهمية استخدام الأنثوسيانين كملون أحمر طبيعي في معامل الغذاء. وقد قام الباحثون بدراسة أخرى حيث تم تجفيف مستخرج ثفل العنب الأحمر ودراسة فعاليته ضد البكتيريا. أشارت الدراسة أن بودرة المستخرج تتمتع بفعالية حيوية مضادة على بكتيريا مضرة كالسلمونيلا في جسم الإنسان حيث تبين أن هذه المضادات الحيوية الطبيعية الموجودة في بودرة ثفل العنب الأحمر قتلت الجرثومة بفعالية مطابقة للمضادات الحيوية المعروفة. في دراسة أخرى عن مفعول ثفل العنب على المصابين بمرض القلب، تم وضع مستخرج ثفل العنب كغذاء إضافي للفئران، وأثبتت الدراسة أن المستخرج خفف من مشكلات ضغط الشرايين عند الفئران وحسن عمل عضلة القلب.
وبذلك يتبين كيفية استخدام وتثمين المنتوجات الثانوية للمهتمين بتلك الصناعات، وإثبات دورها في تأمين مردود اقتصادي. ووجوب بذل جهد كبير بالتقليل من مخلفات التصنيع الغذائي الى جانب الاستفادة المثلى منها كمصدر للمركبات الهامة في التصنيع الغذائي والتي يمكن استخدامها كمواد ملونة طبيعية ومواد مضادة للأكسدة ومصدرا للنكهات الطبيعية.