مستقبلٌ يرسمه الغرافين
جون وينز Noble Magazine – November 2019 – ترجمة أ. ديمة أبوظهر
الغرافين: تتكون هذه المادة الأعجوبة من صف من ذرات الكربون المترابطة والمنتظمة على صفيحة بسماكة ذرة واحدة. تَعِدُ هذه المادة بعالمٍ من التطبيقات، كالإلكترونيات فائقة السرعة، والمستشعرات فائقة الحساسية، والمواد عالية الجودة والكفاءة. وبعد عدة بدايات فاشلة، أصبح هذا الوعد أقرب إلى التحقق. وفي إثره بدأت تظهر مجموعة من المواد فائقة الرِّقة.
كانت بداية ولادة الغرافين عام 2003م، عندما اكتشف العلماء في جامعة مانشستر أن بإمكانهم قَشرُ غشاء رقيق من هذه المادة بمجرد مسِّ قطعة من الشريط اللاصق بكتلة من الغرافيت المُنقّى، وهو الكربون في حالته الصلبة الممزوج بالصلصال والمُستخدم في معظم أقلام الرصاص. أثبت الغرافين متانة أفضل من الفولاذ ولكنه في غاية المرونة، ويمكن أن تندفع الإلكترونات من خلاله بسرعات عالية. وقد حصد مكتشفوه جائزة نوبل لعام 2010م، ولكن أمضى الباحثون سنوات في محاولات مضنية لتصنيعه على نطاق واسع لإيجاد أنجع الطرق للاستفادة من خصائصه المذهلة. على أنهم لم يتوصَّلوا إلى ذلك بيُسر وسهولة، كما يقول الكيميائي من جامعة روتشستر، تود كراوس (Todd Krauss). فيقول: «العلماء لا يجيدون التنبؤ بما سيكون مفيدًا في التطبيقات».
يقول كراوس إن الغرافين جُرّب كمجس طبي مجهري، نظرًا لصفيحاته الرقيقة برقّة الذرّة والمُطبّقة في جسيمات صغيرة تُعرف باسم النقاط الكمومية، ولكنه لم يعمل كما كان مرجوًا. وعندما لُفت صفيحات الغرافين أنابيبَ نانوية أشبه بقصبة امتصاص المشروبات، صُنِعت منه مواد كعصي الهوكي ومضارب كرة القاعدة على أمل أن تتفوق صلابته ومتانته على ألياف الكربون، ولكن يشير كراوس إلى أن التوجه السائد كان الابتعاد عن استخدام الأنابيب النانوية في منتجات المستهلك. (ويخشى بعضهم أن الأنابيب النانوية الكربونية الطويلة قد تؤذي الرئات نظرًا لأنها تحتوي موادًا كيميائية تشبه الأسبستوس [حجر الفتيل]) أما اليوم، يشق الغرافين طريقهُ نحو أنواع أخرى من المنتجات. يقول مارك هيرسام (Mark Hersam) من جامعة نورثويسترن: «وصل الغرافين». يجري تطوير أكسيد الغرافين ووضعه في طبقة فوق الزنك، ويُستعمل بديلًا ذا سعة تخزين أكبر عن الغرافيت الأقل كفاءة أحيانًا المُستخدم حاليًا في أنودات البطاريات. واستُخدمت الأنابيب النانوية مؤخرًا كترانزستورات لصنع معالجٍ دقيق (ميكروبروسيسر) عوضًا عن السيليكون (على عكس الغرافين المسطح، يمكن معالجة الأنابيب النانوية لتكون بمثابة أشباه الموصلات). على الرغم من أن المعالج الدقيق كان بدائيًا بحسب مقاييس الحوسبة الحديثة، ويمكن القول إنه أشبه بمستوى معالجة سيغا جينيسز (نظام ألعاب فيديو صدر في أواخر الثمانينات)، يعتقد علماء المواد أنه من الممكن أن يُمهِّد الطريق لمكونات أسرع وأكثر فاعلية تُستخدم في معالجات الحواسيب.
دفعت الخصائص الفيزيائية للغرافين إلى التفكير في عدة تطبيقات محتملة، من بينها في مجال الطب. تجري دراسة متغير من الغرافين، هو أكسيد الغرافين، ليكون مركبًا تجريبيًا لنقل العقار. بالنظر إليه بالمجهر هنا، يبلغ ارتفاع هذه القطعة من أكسيد الغرافين نحو 80 نانومتر. بينما تبلغ سماكة صفيحة الغرافين الواحدة 0.34 نانومتر فقط.
المصدر: SCIENCE SOURCE
في الوقت نفسه، نشهد حاليًا ولادة جيل جديد من المواد ثنائية الأبعاد. فقد أزكى نجاح الغرافين الجهود المبذولة للعثور على مواد رقيقة ذريًا تعمل مع مختلف المواد الكيميائية؛ لاستغلال الخصائص الفيزيائية التي تظهر في مثل هذه المواد فائقة الرِّقة. من بين الوافدين الجدد عازلٌ أكثر فعالية من العوازل التقليدية في إيقاف حركة الإلكترونات، وآخر يسمح للإلكترونات بالانزلاق عبره بنسبة جيدة من سرعة الضوء، باحتكاك طفيف. يعتقد الباحثون أن بعض هذه المواد قد تحل محل السيليكون في رقائق الحاسوب يومًا ما، من بين استعمالات أخرى محتملة. تحوز اليوم مواد أخرى قيد التطوير تطلعات أعلى، مثل دفع العلماء نحو واحد من أكثر الأهداف إثارة في الكيمياء، ألا وهو ابتكار موصلات فائقة عالية الحرارة.
الإلكترونات السريعة
تترابط ذرات الكربون في الغرافين بنمط قرص العسل؛ فتتشارك كل ذرةٍ الإلكترونات مع ثلاث ذرات كربون مجاورة. تسمح هذه البنية لأي إلكترونات مُضافة بالحركة بسرعة عبر سطحها. عادةً، قد يتحرك إلكترون واحد عبر معدن موصل كالنحاس بسرعة 1.2 بوصة في الدقيقة (على اعتبار السلك بقياس 12 والكهرباء بقوة 10 أمبير). ولكن في التجارب الأولى على الغرافين، اندفعت الإلكترونات بسرعة 2.34 مليار بوصة بالدقيقة، مما قد يجعل الأجهزة الإلكترونية تشحن في عدة دقائق، ولاحقًا في غضون ثوانٍ. ينقل الغرافين الحرارة كما ينقل الكهرباء. وهو أحد أقوى المواد التي دُرست على الإطلاق، بل أقوى من الفولاذ؛ إذ يمكنه إيقاف رصاصة، ولكنه مطاط أيضًا، بمعنى أنه مرن وصلب.
قد تتسم المواد ثنائية الأبعاد الأخرى قيد الاستكشاف بسمات مشابهة بالإضافة إلى صفات جديدة خاصة بها أخفتها الشوائب الكيميائية حتى وقت قريب، كما تقول أنجيلا هايت ووكر (Angela Hight Walker)، قائدة المشروع في المعهد الوطني للمعايير والتكنولوجيا في غايثرسبيرغ، ميريلاند. وتقول: «لقد وصلنا الآن إلى النقطة التي يمكننا فيها رؤية الفيزياء الجديدة التي غشّتها جودة عينات رديئة». الفوسفور الأسود أحد القادمين الجدد. استكشفه هيرسام وصديقه فينود سانغوان (Vinod Sangwan) الذي شاركه التأليف في المجلة السنوية للكيمياء الفيزيائية عام 2018م. عندما يُحمّى الفوسفور الأبيض، وهو مادة كيميائية كاوية شديدة التفاعل، تحت ضغطٍ عالٍ، يصبح مادة موصلة ومتقشّرة لها سلوك الغرافيت. وعند قشر طبقة برقة الذرّة من هذا الفوسفور الأسود بشريط لاصق تنتج مادة تُسمى الفوسفورين. يتنافس الفوسفورين، الذي صُنع أول مرة عام 2014م، مع الغرافين من حيث القوة والقدرة على تحريك الإلكترونات بكفاءة. ولكنه ليس مسطحًا تمامًا على المستوى الذري مثل الغرافين، ولهذا عواقب مثيرة للاهتمام.
في الغرافين، تصطف ذرات الكربون جنبًا إلى جنب، لهذا هو مسطح. في حين يبدو تكوين الفوسفورين ثنائي الأبعاد أشبه بطيّة القماش؛ فتصطف ذرتان في مستوى أدنى وترتبط باثنتين في مستوى أعلى، مشكّلةً ما يُسمى فرق الطاقة. تؤثر هذه البنية المتموجة بدورها على انسياب الإلكترونات بطريقة تجعل الفوسفورين من «أشباه الموصلات»، أي أنه من السهل تشغيل انسياب الإلكترون أو تعطيله. يمكن أن يجد الفوسفورين تطبيقات له في رقائق الحواسيب مثل السيليكون، حيث تمثّل الإلكترونات المتبادلة آحادًا وأصفارًا. كما أن الفوسفورين جيد في إطلاق أو امتصاص الفوتونات بأطوال الموجات تحت الحمراء. يقول هيرسام إن هذه الحيلة البصرية تعطي الفوسفورين إمكانات هائلة للاستعمال في اتصالات الألياف البصرية؛ لأن فرق الطاقة يطابق طاقة الأشعة تحت الحمراء تقريبًا، كما قد يبدي كفاءة في الخلايا الشمسية. غير أن العمل بالفوسفورين ليس سهلًا؛ فهو غير مستقر للغاية ويتأكسد بسرعة ما لم يُخزّن بالطريقة الصحيحة. تقول هايت ووكر: «سوف يتحلل حرفيًا إذا وُضع في الغرفة،» في أقل من دقيقة عادةً، ولكن قد يساعد إضافة مواد أخرى ثنائية الأبعاد إليه في حماية هذه المادة الكيميائية الحساسة.
تشكل المواد ثنائية الأبعاد الناشئة كالفوسفورين والبوروفين ونتريد البورون أغشية رقيقة. يُعرض انتظامها الذري هنا من الأعلى ومن الجانب.
المصدر: MODIFIED FROM V.K. SANGWAN AND M.C. HERSAM / AR PHYSICAL CHEMISTRY 2018
البورون بجانبيه
قد يبدو البورون غير ملائم للتطبيقات الإلكترونية؛ إذ يُعرف بنحو أفضل كسماد، أو أحد مكونات الألياف الزجاجية، أو مادة مضافة لمنظفات الغسيل (إذا ما أضيف إليه الملح). ولكن إذا جعلته رقيقًا جدًا ومسطحًا جدًا، يعمل البورون كالمعدن، ويوصل الكهرباء بسهولة. كذلك فإن البورون ثنائي الأبعاد، المُسمى بوروفين، شفاف وفي غاية المرونة. إضافة إلى خصائص البوروفين في نقل الكهرباء، يمكن أن تجعله مرونته وشفافيته المادة المفضلة للأجهزة الجديدة، مثل شاشات اللمس الرقيقة القابلة للطي. تسمح بنية البوروفين-كالغرافين- للإلكترونات بالانسياب عبره. وهو ناقل جيد للكهرباء حتى أنه تجري دراسته الآن كطريقة لتحسين تخزين الطاقة في بطاريات الليثيوم أيون. ويعتقد بعض الباحثين أنه يمكن تطويره ليعمل في حالات التوصيل الفائق في درجات عالية نسبيًا -مع أنه لا يزال باردًا جدًا (أظهرت الاختبارات الأولى أن التأثير بين سالب 212 وسالب 218 درجة مئوية). تعمل معظم الموصلات الفائقة الحالية بدرجة حرارة أقرب إلى الصفر المطلق، أو ما يقارب سالب 273 درجة مئوية. تسمح المادة فائقة التوصيل للإلكترونات بالتحرك عبرها دون أي مقاومة، مما يُهيئ إمكانية تحقيق إنجازات إلكترونية جبارة في جهاز ما باستخدام كمية صغيرة فقط من الطاقة.
يمكن للبورون -وهو بشكل البوروفين- أن ينقل الإلكترونات كالمعدن. ومع ذلك، يمكنه أن يمنع انسياب الإلكترونات بفعالية عالية كجزء من غشاء ثنائي البُعد من نتريد البورون. يقول هيرسام: «بمعنى آخر، فإن البورون ثنائي الأبعاد ونتريد البورون ثنائي الأبعاد يقعان في الطرفين المتعاكسين من طيف التوصيل الكهربائي». وأثبتت خاصية العزل التي يتمتع بها نتريد البورون فائدتها في البحث عن مواد أخرى ثنائية الأبعاد. خذ الفوسفور الأسود قصير الأجل على سبيل المثال: من بين الطرق التي تمكن فيها الباحثون من إبقائه مستقرًا بما يكفي لدراسته، كانت بحصره بين صفيحتين من نتريد البورون. مع ذلك، حتى أثناء منع نتريد البورون من انسياب الإلكترونات، فإنه يسمح للفوتونات بالمرور، كما يقول الفيزيائي ميلوس توث (Milos Toth) من جامعة سيدني للتكنولوجيا، الذي شارك في تأليف مقالة عن إمكانات نتريد البورون والمواد الأخرى ثنائية الأبعاد في المجلة السنوية للكيمياء الفيزيائية لعام 2019 م. وهذا مثالي في ابتكار أشياء تُسمى مصادر الفوتون المفرد، التي يمكنها أن تطلق جسيمًا واحدًا من الضوء في المرة الواحدة وتُستخدم في الحوسبة الكمومية، ومعالجة المعلومات الكمومية، وفي التجارب الفيزيائية.
المواد المغناطيسية
المادة الأخرى الرقيقة ذريًا التي تخلق ضجة كبيرة في محافل علم المواد هي مركب من الكروم واليود يُسمى ثلاثي يوديد الكروم. وهي أول مادة ثنائية الأبعاد تولِّد حقلًا مغناطيسيًا طبيعيًا. يقترح العلماء العاملون على ثلاثي يوديد الكروم أن تجد هذه المادة استخدامات لها في ذاكرة الحواسيب وفي التخزين، فضلًا عن أغراض أكثر تركيزًا على البحث مثل التحكم في دوران الإلكترون. ولكن هناك مشكلة، كما يقول هيرسام: «فهذه المادة يصعب جدًا العمل بها»، لأنها صعبة التصنيع من جهة، وعند تصنيعها تكون غير مستقرة. في الوقت الحالي، فإن الطريقة الوحيدة للعمل بها هي في درجات حرارة منخفضة للغاية، بدرجة حرارة ناقص 226 درجة مئوية وما دون. ولكن قد يأتي نتريد البورون للإنقاذ من جديد؛ فقد احتُفظ ببعض عينات ثلاثي يوديد الكروم لعدة شهور متتالية بين طبقتين من نتريد البورون. تقول هايت ووكر إن خصائص ثلاثي يوديد الكروم الصعبة قد لا تمكنه من الوصول إلى تطبيقات في الأجهزة، «ولكن عندما نفهم الفيزياء خلف ما يحدث، يمكننا أن نبحث عن هذا السلوك المغناطيسي ثنائي الأبعاد في مواد أخرى». يجري الآن استكشاف عدد من المواد المغناطيسية ثنائية الأبعاد، وإحدى الاحتمالات هي بلورات المنغنيز أحادية الطبقة المجدولة في مواد عازلة.
حاصرات رقيقة
قد يعتمد دمج أي من هذه الطبقات الرقيقة في شيء قابل للاستخدام في النهاية -حرفيًا- على طريقة تكدسها. قد تُجمع مواد مختلفة فائقة الرقة في طبقات معًا حتى يمكن للخصائص الكامنة في كل مادة أن تكمل بعضها بعضًا. تقول هايت ووكر: «لدينا العوازل وأشباه الموصلات والمعادن والآن المغانط، هذه هي الأجزاء التي تحتاجها لصنع أي شيء تريده تقريبًا». أحد التطبيقات المحتملة المثيرة بنحو خاص لهايت ووكر هي في الحوسبة الكمومية. على عكس الحوسبة التقليدية، التي تكون فيها أجزاء المعلومات إما آحادًا أو أصفارًا، تسمح الحوسبة الكمومية لكل «بت كمومي -كيوبت» من المعلومات ليكون واحدًا وصفرًا في وقت واحد. من حيث المبدأ، سيسمح هذا للحواسيب الكمومية بحل المشكلات بسرعة أكبر مما قد تستغرقه الأجهزة التقليدية بوقت طويل.
في الوقت الحالي، تُصنع البتات الكمومية من موصلات فائقة يجب الاحتفاظ بها بدرجة التجمد، مما يقيد إمكانيات استخدامها في العالم الواقعي ويحث البحث عن أنواع جديدة من مواد التوصيل الفائق. ولهذا يتوق الباحثون لدراسة قدرة البوروفين على التوصيل الفائق. (كما أظهر الغرافين، إذا ما انتظمت طبقاته بطريقة معينة، إمكانيات محتملة للتوصيل الفائق.) وقد تحتوي مادة مصنعة على عدة طبقات من مواد التوصيل الفائق وتفصل بينها عوازل قوية يمكنها أن تمكن بتات كمومية أصغر وأكثر استقرارًا فلا تحتاج إلى مثل درجات الحرارة المنخفضة، مما قد يقلل حجم الحواسيب الكمومية الإجمالي. إنها حاليًا أجهزة بحجم الغرفة، كما كانت الحواسيب البدائية في السابق. وسيتطلب تقليل حجمها إلى أساليب مبتكرة ومواد رقيقة جدًا مطبقة في صفيحات صغيرة.