مقدمة في تقنية النانو
د. حمد البريثن – فيزياء المواد – جامعة الملك سعود – 1 اكتوبر – 2021

أصبحت تقنيّة النانو في طليعة المجالات الأكثر أهميّة وإثارة في الفيزياء، والكيمياء، والأحياء، والهندسة، ومجالات كثيرة أخرى. فقد أعطت أملاً كبيراً لثورات علميّة في المستقبل القريب ستغيّر وجهة التقنيّة في الكثير من التطبيقات. من هذا المنطلق، من المهم إعطاء فكرة عامّة وموجزة لغير المختّصين عن هذه التقنيّة. ويعود الاهتمام الواسع بتقنيّة النانو إلى المدّة ما بين عامي 1996 و 1998، عندما قام مركز تقييم التقنيّة العالمي الأمريكي (WTEC) بدراسة تقويميّة لأبحاث النانو، وأهميتها في الإبداع التقني. خلصت الدراسة إلى نقاط من أهمها أن لتقنيّة النانو مستقبلًا عظيمًا في جميع المجالات الطبيّة والعسكريّة، والمعلوماتيّة، والإلكترونيّة، والحاسوبيّة، والبتروكيميائيّة، والزراعيّة، والحيّوية، وغيرها، وأن تقنيّة النانو متعدّدة الخلفيّات؛ فهي تعتمد على مبادئ الفيزياء والكيمياء والهندسة الكهربائية والكيميائية وغيرها، إضافة إلى تخصّص الأحياء والصيدلة.
وهذا ما يجعل من الضروري أن يتواصل الباحثون في أي مجال مع الآخرين في المجالات الأخرى من أجل الحصول على خلفيّة عريضة عن تقنيّة النانو، والمشاركة الفعالة في هذا المجال المثير. كما أن المديرين الفنيين، وداعمي هذه الأبحاث لا بدّ من أن يلمُّوا بإيجاز عن عموم هذه المجالات.
يعتمد مفهوم تقنيّة النانو على حسبان أن الجسيمات التي يقلُّ حجمها عن مئة نانومتر (النانومتر هو جزء من ألف مليون من المتر) تُعطي للمادة التي تدخل في تركيبها خصائص وسلوكيّات جديدة، وهذا بسبب أن هذه الجسيمات (التي هي أصغر من الأطوال المميَزة المصاحبة لبعض الظواهر) تُبدي مفاهيم فيزيائية وكيميائية جديدة، مما يقود إلى سلوك جديد يعتمد على حجم الجسيمات. فقد لوحظ، كمثال لذلك، أن التركيب الإلكتروني، والتوصيلية، والتفاعلية، ودرجة الانصهار والخصائص الميكانيكيّة للمادة تتغيّر كلها عندما يقلّ حجم الجسيمات عن قيمة حرجة من الحجم، إذ كلما اقترب حجم المادة من الأبعاد الذريّة كلما خضعت المادة لقوانين ميكانيكا الكم بدلاً من قوانين الفيزياء التقليديّة.


إن اعتماد سلوك المادة على حجمها يمكّننا من التحكم بهندسة خواصها، وبناءً عليه، فقد استنتج الباحثون أن لهذا المفهوم آثارًا تقنيّة عظيمة تشمل مجالات تقنيّة واسعة ومتنوّعة تشمل إنتاج مواد خفيفة وقويّة، واختزال زمن توصيل الدواء النانوي إلى الجهاز الدوري البشري، وزيادة حجم استيعاب الأشرطة المغناطيسيّة، وصناعة مفاتيح حاسوب سريعة … إلخ. وبشكل عام، فإن تقنيّة النانو هي تلك التي تتعامل مع تراكيب متعدّدة من المواد ذات أبعاد من رتبة النانومتر.
وعلى الرغم من أن تقنيّة النانو حديثة نسبيًّا، فإن وجود أجهزة تعمل بهذا المفهوم وتراكيب ذات أبعاد نانويّة، ليس بالأمر الجديد، والواقع أن وجودها يعود إلى عمر الأرض، وبدء الحياة فيها، إذ من المعروف أن الأنظمة البيولوجيّة في الجسم الحي تقوم بتصنيع بعض الأجهزة الصغيرة جدًّا، التي تصل إلى حدود مقياس النانو، فالخلايا الحيّة تعدُّ مثالًا مهمًا لتقنيّة النانو الطبيعيّة، إذ تُعدُّ الخليّة مستودعًا لعدد كبير من الآلات البيولوجيّة بحجم النانو، ويجري تصنيع البروتينات داخلها على شكل خطوط مجتمعة بحجم النانو تسمى ليبوزومات، ثم يتم تشكيلها بواسطة جهاز نانوي آخر يسمى جولجي، بل إن الإنزيمات هي بنفسها تعدُّ آلة نانويّة تقوم بفصل الجزيئات، أو جمعها حسب حاجة الخليّة، وبالتالي فيمكن للآلات النانويّة المصنّعة أن تتفاعل معها، وتؤدّي الهدف المنشود، مثل: تحليل محتويات الخليّة، وإيصال الدواء إليها، أو إبادتها عندما تصبح مؤذيّة.
كما أنه ليس من المعروف بدايةً استخدام الإنسان للمادة ذات الحجم النانوي، لكن من المعلوم أن أحد المقتنيات الزجاجيّة، وهو كأس الملك الروماني لايكورجوس (Lycurgus) في القرن الرابع الميلادي الموجودة في المتحف البريطاني يحتوي على جسيمات ذهب وفضة نانويّة، إذ يتغيّر لون الكأس من الأخضر إلى الأحمر الغامق عندما يوضع فيه مصدر ضوئي. وكذلك تعتمد تقنيّة التصوير الفوتوغرافي منذ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين على إنتاج فيلم أو غشاء مصنوع من جسيمات فضيّة نانويّة حساسة للضوء.

لقد حظيت تقنيّة النانو في الوقت الحاضر بالاهتمام الكبير؛ لما أبدته من تطبيقات واعدة وكثيرة شملت المجالات الطبيّة، والعسكريّة، والاتصالات، والإلكترونية، والحاسوبية، والبيتروكيميائية، والزراعية، والحيوية …إلخ. أدّى ذلك إلى دعم عالمي سخي واسع لأبحاث النانو في السنوات الأخيرة.
وقد أعلنت الولايات المتحدة عام 2000 مبادرة «تقنيّة النانو الوطنيّة (NNI)» التي جعلت تقنيّة النانو تقنيّة استراتيجيّة وطنيّة وفتحت مجال الدعم الحكومي الكبير لهذه التقنيّة في جميع المجالات الصناعيّة، والعلميّة، والجامعيّة، وبدأت بمبادرة الرئيس كلنتون برصد 422 مليون دولار عام 2001 لأبحاث تقنيّة النانو، تلاها رصد 849 مليون دولار عام 2003، وتلا ذلك قيام اليابان عام 2002 بإنشاء مركز متخصّص للباحثين في تقنيّة النانو، وذلك بتوفير جميع الأجهزة المتخصّصة، ودعم الباحثين، وتشجيعهم، وتبادل المعلومات فيما بينهم، كما خصّصت 900 مليون دولار سنويًّا لهذا الغرض، ولمدة 5 سنوات بدءاً من عام 2005.
وقدر الإنفاق العالمي على أبحاث النانو عام 2003 بأربعة ملايين دولار، وخصّصت كوريا ما يزيد على بليون دولار لتقنيّة النانو خلال خطة عشريّة انتهت عام 2010 من أجل السعي لتكون إحدى خمس دول رائدة عالميًّا في هذا المجال بنهاية الخطة، كما قدر إنفاق الحكومة الصينيّة مبلغ 280 مليون دولار على تقنيّة النانو خلال المُدّة 2001 – 2005، أما اهتمامها بالكوادر فقد بلغ عدد المشتغلين بهذه التقنيّة في الصين 4500 متخصّص في عام 2005، 30٪ منهم يحملون الدكتوراه أو أعلى، و 40٪ منهم يحملون شهادة الماجستير أو ما يعادلها.
وعلى الرغم من جميع ما ذُكِر فإن هنالك الكثير من الصعوبات التي تحتاج إلى المزيد من البحث، من أهمها: إمكانيّة الوصول إلى طرائق رخيصة وعمليّة، لتحضير مواد نانويّة مختلفة بشكل تجاري؛ لاستخدامها في التطبيقات المختلفة، كما أن هناك صعوبة أخرى، وهي: التواصل بين مفهوم عالم النانو الحديث وعالم الماكرو المستخدم حاليًّا في تصنيع الأجهزة الإلكترونيّة.