نهي فيثاغورس

عن أكل الفول ونقص أنزيم G6PD

أ. نورا أحمد هبه فيزياء بحرية – مركز أبحاث علوم البحار والبيئة – اليمن

لطالما سمعنا عندما كنا أطفالًا في المدرسة تحذيرًا من تناول الفول وخصوصًا في الصباح الباكر تحت ذريعة أن الفول يبلد العقل ويجلب الكسل والخمول؛ فما أصل هذا التحذير؟ وما صلته بتحريم الفيلسوف والمصلح الديني فيثاغورس وجماعته، على الرغم من نظامهم الغذائي النباتي، لأكل فول الفافا أو الاقتراب من حقوله المزهرة؟ تشكل حبة فول الفافا لكثيرين جزءًا مهمًا من طعامهم، له طعمه المستساغ وفائدته الغذائية. وبحلول عام 1900 بدأ الناس يفهمون السبب في تزايد السمعة السيئة لفول الفافا على مر السنين، لأن هذا الفول وإن كان مناسبًا بوصفه طعامًا لبعض الناس؛ فإنه لآخرين بمنزلة عصا من الديناميت.

فول الفافا عبر التاريخ

فول الفافا (Vicia Faba) المعروف أيضًا باسم الفول العريض عبارة عن نبات سريع النمو، ينمو في الطقس البارد، يمكن زراعته في أوائل الربيع أو الخريف. يُزرع للحصول على بذوره الكبيرة والمسطحة الصالحة للأكل، الموجودة داخل التراكيب الثمرية أو القرون. وتأريخه مفعم بالخرافات والحظر والسحر والخوف. يعود استهلاك فول الفافا في الشرق الأدنى إلى أواخر العصر الحجري الحديث. وبعد ذلك زُرع في مصر القديمة واليونان وروما. ذُكر فول الفافا عدة مرات في إلياذة هوميروس، القرن الثامن إلى القرن التاسع قبل الميلاد. وربط الإغريق القدماء البقعة السوداء الصغيرة على سرة حبة الفول بالموت. وعلى الرغم من أن نبات فول الفافا كان يقدم أحيانًا قرابين لأبولو فقد مُنع الكهنة من أكله أو حتى ذكر اسمه. على عكس المصريين واليونانيين كان نبات فول الفافا عند الرومان يحظى بتقدير كبير بين البقوليات. وقد ذكر المؤرخ اليوناني هيرودوت أن المصريين رفضوا زراعة نبات فول الفافا على الإطلاق، وكان من المحرمات على الكهنة تناوله وكان يقدم بصفته عرضًا رمزيًا للآلهة فقد قدم الفرعون رمسيس الثالث 19998 جرة من الفول إلى آلهة النيل. ومن هنا يتضح على الرغم من كون هذا النبات يعد من أولى المحاصيل المزروعة في التأريخ إلا أن عديدًا من الثقافات لها مشاعر متباينة اتجاهه.

ودائمًا ما حظي نفور فيثاغورس من الفول بكثير من الاهتمام حتى من الكتّاب القدامى فقد لخص أرسطو حال الجدل بحسب معتقداته القديمة حيث قال: إن فيثاغورس حرم الفول إمّا لأن لها شكل الخصيتين، وإمّا لأنها تشبه أبواب الجحيم، وإمّا لأنها تفسد. ووفقًا لبليني اعتقد الفيثاغوريين أن الفول يمكن أن يحتوي على أرواح الموتى، لأنها تشبه اللحم بسبب أزهارها المرقطة باللون الأسود وسيقانها المجوفة، كما اعتقدوا أن النباتات تربط الأرض بالجحيم مما يوفر سلالمَ لأرواح البشر. وكتب دينوجينيس لارتيوس كاتب السيرة الذاتية للفلاسفة اليونان رفض الفيثاغوريين فول الفافا؛ لأنها تسبب انتفاخًا مزعجًا للفكر قائلًا: على المرء أن يمتنع عن الفول؛ لأنه مليء بالرياح ويشارك في الروح وإذا امتنع المرء عن تناوله؛ فإن معدته ستكون أقل ضوضاء، وستكون أحلامه أقل ثقلًا وأكثر هدوءًا. ومع ذلك أكل يونانيون آخرون كثيرًا من الفول وسخِروا من معتقدات فيثاغورس. وقد تسبب بُغْض فيثاغورس للفول في قتله في النهاية؛ لأن معتقداته الدينية كانت تستثير سخط بعض الناس، وذات يوم، فيما يقال، وجده جمهور من هؤلاء الناس وهو وحده في منزل أحد أتباعه وبدؤوا في مطاردته. وجرى فيثاغورس هاربًا حتى وصل إلى طرف حقل للفول. فرفض أن يعبر الحقل ثابتًا على مبدئه حتى النهاية. وهكذا أدركه الجمهور وقطع عنقه.

لغز فول الفافا

وظل لغز نهي فيثاغورس نفسه وأتباعه عن أكل الفول أو الاقتراب منه محيّرًا للمؤرخين طيلة قرون، حتى مطلع القرن العشرين، بدأ الأطباء في التعرف على حدوث مرض أنيميا الفول (Favism) الذي يحدث بعد تناول فول الفافا، وبدؤوا يلاحظون أن بعض الناس يعانون من مرض مفاجئ أدى في بعض الحالات إلى الوفاة بسرعة. يبدو السبب واضحًا اليوم، ولكن لم يكن الأمر كذلك حتى عام 1904 عندما توصل كليمنس فون بيركيه إلى التعريف الطبي للحساسية، قبل هذا الوقت كان من الصعب على الأطباء فهم مفهوم أن ما قد يكون جيدًا لشخص ما قد يكون سامًّا لشخص أخر. عندما بدأ العلماء في البحث في أنيميا الفول (Favism) وجدوا نقصًا وراثيًا ينتقل بالكامل في جين أنزيم معين يطلق عليه الجلوكوز6 –فوسفات ديهيدروجينيز واختصارا (G6PD) في حوالي %20 من الأشخاص الذين يعانون من هذا النقص. يمكن أن يؤدي تناول الفول الطازج أو استنشاق حبوب اللقاح من زهرة النبات إلى الإصابة بفقر الدم الانحلالي الحاد، الأنيميا التكسيرية. وهناك ما يقدر بنحو 400 مليون شخص في جميع أنحاء العالم يعانون من هذا النقص.

يُظهر المصابون بنقص إنزيم (G6PD) أعراض اليرقان وفقر الدم ويفرزون الدم في البول بسبب وصول خلايا الدم الحمراء المتفجرة إلى الكليتين فإنها ترشح وتفرز للخارج، فإذا كان الدمار بقدر محدود فإن فقدان الدم يؤدي إلى الشعور بالوخم، أما إذا كان الدمار شديدًا فإن المرض قد يقتل. حتى يومنا هذا، يموت ما يقرب من %10 ممن يعانون من رد الفعل هذا عادة في غضون أيام. وتجدر الإشارة إلى أن هذا الإنزيم يشكل حلقة أساسية في سلسلة التفاعلات التي تنتج الطاقة لخلايا الدم الحمراء. فإذا انقطعت حلقة من هذه السلسلة واحتاجت الخلايا إلى إنزيم (G6PD) ليحميها من كيمياويات معينة فإن نقصه يؤدي إلى أن تصبح الخلية أكثر هشاشة، والنتيجة النهائية هي أن يمزق الضغط الداخلي جدران الخلية الموهنة.

حل اللغز

بدأ التفسير المحتمل لأنيميا الفول (Favism) في الظهور في عشرينيات القرن الماضي عندما وجد العلماء أن نقص إنزيم معين يطلق عليه الجلوكوز6 –فوسفات ديهيدروجينيز واختصارا (G6PD) يوفر في الواقع دفاعا ضد الملاريا وأصبحت هذه المعلومات أكثر أهمية في الحرب العالمية الثانية عندما لاحظ الأطباء الذين يعالجون الملاريا بالأدوية التي تحتوي على الكينين أن عديدًا من الأشخاص الذين يعانون من أنيميا الفول قد تفاعلوا مع الدواء بالطريقة نفسها التي تفاعلوا بها من تناول فول الفافا. وعند إجراء مزيد من التحقيقات وجد العلماء أن الفول يحتوي على عديد من المركبات الكيميائية التي تشبه تلك الموجودة في الكينين. ففول الفافا غني بمركبين من الجليكوسيد وهما فيسين وكونفسين ويشكلان حوالي %2 من الوزن الجاف.

وعند تناول الفول يتحلل الجليكوسيدات إنزيميًا ويتشكل البيريميدين الجزء اللاسكري ودايفسين وايسويوراميل على التوالي. وتتمثل الآلية المقترحة لأنيميا الفول في أن هذه المركبات الجديدة تخضع لدورة الأكسدة والاختزال وتستنفذ العملية الجلوتاثيون المختزل مما يؤدي إلى تكوين الجذور الحرة وبيروكسيد الهيدروجين اللذين يفضيان إلى انحلال خلايا الدم الحمراء بشكل أسرع من قدرة الجسم على استبدالها. وبعد عقود من البحث، أثبتوا في السنوات القليلة الماضية أن الفول نفسه يحارب أيضًا الملاريا بالطريقة نفسها نقص (G6PD) بتقليل كمية الأكسجين في الدم. ونظريًا عندما يستهلك الأشخاص المصابون بهذا النقص والذين لا يعانون من أنيميا الفول، وهم الغالبية العظمى، تزداد مقاومة الملاريا. ومن هنا يتبين حتى لو كان لفول الفافا خطرًا على نسبة مئوية من الناس فإن فوائده لبقية السكان تفوق بكثير أوجه القصور فيه.

فقر الدم الحاد والحناء

وفي السياق نفسه ولكن من ناحية نقص إنزيم (G6PD) أبلغ اطباء من دول متعددة مثل تركيا والإمارات المتحدة والسودان عن حالات لمواليد وبالغين أصيبت بفقر دم حاد وفشل كلوي بعد استعمال الحناء. والحناء عبارة عن عامل تجميلي تقليدي يُحصل عليه من أوراق شجيرة لاوسونيا ألبا وهي شائعة الاستخدام في جميع أنحاء الشرق الأوسط وأفريقيا. بالإضافة إلى استعماله عاملًا علاجيًا لبعض أنواع الآفات الجلدية. والعنصر الكيميائي المهم في الحناء هو لوسون (2- هيدروكسي، 1.4نفثوكينون) ويكوّن حوالي %1 من وزن الأوراق المسحوقة. وتركيب وجهد الأكسدة والاختزال لمادة لوسون مشابه لتلك الموجودة في أحد مستقلبات النفثالين وهو (1.4نفثوكينون) وهو مؤكسد قوي لخلايا الدم الحمراء ناقصة (G6PD) ويؤدي كذلك إلى فرط بيليروبين الدم. وتشير الملاحظات في المختبر إلى أن مادة اللوسون قادرة على إحداث ضرر تأكسدي لخلايا الدم الحمراء طبيعية (G6PD) حتى أكثر من خلايا الدم الحمراء ناقصة (G6PD).

Share This